شعار قسم مدونات

أميركا والفردانيّة.. أو في البدء كنتَ أنت

blogs - america
إحدى مريضاتي في عيادة الطبّ النفسيّ مصابة باضطراب ما بعد الصدمة، ومدمنة على الهيروين، ومصابة بالفيروس المسبّب لمتلازمة نقص المناعة المكتسبة HIV. طبيبُها العامّ أرسل لي رسالة يقولُ فيها إنّ نسبة الفيروس في دمِها مرتفعة جدّا، وهو ما يعني أنّها لا تأخذ دواءها بانتظام، وكان لديه اقتراح لحلّ المشكلة.

المريضة تحصل من عيادتي على دواء ذي طبيعة خاصّة يُستخدَم لعلاج مدمني الهيروين، ولأنّ الدواء هو نفسُه يمكن أن يكون مادة للإدمان، فالرقابة على صرفه وتعاطيه مشدّدة، وكثير من المرضى ومنهم مريضتي يتوجّب عليهم أن يأتوا إلى العيادة يوميّا ليحصلوا على جرعتِهم اليوميّة، ويتناولوها أمام فرد من الطاقم الطبيّ. كان اقتراح طبيبها أن نعطيَها أدوية مرض فيروس HIV بالطريقة نفسِها حين تأتيَ يوميّا للحصول على دواء الإدمان، وذلك للتّأكد من تناولِها لأدويتِها التي تحتاجُها بشدّة.

في أمريكا، كل فرد هو ذات قانونيّة متفرّدة، وبالتّالي فقيام علاقة قانونيّة ملتبِسة بين أبناء البيت الواحد ليس أمرا مستغرَبا.

ناقشتُ الاقتراح مع الطبيب المشرف على العيادة، فكان جوابُه متوقَّعا، لكنّه صاغه بطريقة لافتة. كان ردُّه ما مفادُه:
"لا مشكلة لديّ طالما أنّها موافقة على ذلك. علينا أن نكون حذرين في عرض الأمر عليها. علينا أن نتذكّر أن حريتَها الشخصيّة في المقام الأول، وأنّ الأمر يعودُ لها في النّهاية. يجب ألا ننسى أنّ حرية الإنسان وتصرّفَه في حياتِه هو الأصل، وأنّه موجود منذ وُجد الإنسان، قبلَ أن تنشأ الحكومات والنّظُم، بل حتّى قبل أن ينشأ الطبّ نفسُه."

ما فاجأني ليس تشديدَه على الحريّة الشخصيّة وحقّ الإنسان في التصرّف في نفسه، فهذه قِيَمٌ يعتادُ عليها من عايش الأمريكيّين ولو لوقتٍ قصير؛ بل ما فاجأني كان ثقتَه أنّ هذه المفاهيم الحديثة للحريّة، والتي يمكن تتبُّعُ أصولِها إلى قرون قريبة، تبدو له قِيَما أزليّة، وُجِدَت قبلَ سائر أشكال التنظيم الاجتماعي والحقوقيّ والمهنيّ.

"الفردانيّة" هي أوّل ما يخطر ببال المرء حين يتحدّث عن أمريكا والأمريكيّين، فهي قيمة كلّية الحضور، إذ تخترق سائر أشكال التنظيم الاجتماعي والقانونيّ والسياسيّ والاقتصاديّ والطبّيّ، وهي شديدة الرّسوخ في تفكيرِ الأمريكيّين بأنفسِهم إلى درجة تجعلُهم لا يُبصِرونَها بشكلٍ واعٍ، بل تبدو لهم من طبائع الأشياء وطبائع أنفسِهم، أي أنّها تبدو لهم حالة طبيعيّة، لا نظيمة ثقافيّة أو فلسفة واعية.

كمثال بسيط، يُمكِن للأمريكي أن يستدعيَ الشرطة إلى البيت إثر خلاف حادّ بينه وبين شقيقِه أو أبيه، ولا تعتبِر الشّرطة ذلك إهدارا لوقتِها، ولا يُعتبَر ذلك عاراً. لكن في بلد عربيّ، يمكن اعتبارُ استدعاء الشّرطة لحلّ خلاف بين فردين من عشيرة واحدة بلا صلة قرابة وثيقة عيباً وعارا، وإدخالاً ل "الغرباء" داخل البيت، وقد ينطبقُ ذلك على أهل الجيرة فضلا عن أهل القرابة.

في أمريكا، كل فرد هو ذات قانونيّة متفرّدة، وبالتّالي فقيام علاقة قانونيّة ملتبِسة بين أبناء البيت الواحد ليس أمرا مستغرَبا.

تاريخيّا، المجتمعات سابقة على الفرد، بمعنى أنّ هذا النمط من التشكيل الاجتماعيّ الذي تكون فيه مصلحة المجموع مقدّمة على الفرد هو ما عرفته المجتمعات الإنسانيّة إلى عهد الليبيرالية القريب الذي دخلته بعضُ المجتمعات، وأبرزُها الولايات المتّحدة. لكنّ الأمر لا يتوقّف عند ذلك، فالمجتمع سابق على الفرد بنيويّا لا تاريخيّا فحسب، بمعنى أنّ الوضع الطبيعيّ هو أسبقيّة المجتمع على الفرد حتى في المجتمع الليبيرالي، ولذلك حكاية طريفة، ولطريقة المجتمع الليبيراليّ في تغيير هذا الواقع حكاية لا تقلّ طرافة.

ينشأ الفرد ضمنَ أسرة في الظروف الطبيعيّة، والأسرة هي المدخل الذي يتعرّف الفرد من خلاله على المجتمع، لكنّها، في الوقت نفسِه، وسيلة المجتمع إلى نقل نظمه وقيمه وأعرافه وتصوّراتِه إلى الفرد. في كلّ مرة يقول الأبوان فيها لطفلهما: "أحسنت" أو "هذا خطأ" يتمّ توصيل مضمون أخلاقيّ ما إلى الطّفل. قد يكون هذا المضمون الأخلاقيّ مُطلَقا، من قبيل "لا تأخذ ما ليس لك"، لكنّه كثيرا ما يكون مرتبِطا بتنظيم اجتماعيّ أو عُرفٍ سلوكيّ، من قبيل "لا ترفع صوتَك في هذا المكان"، "لا تَدُس على العشب"، "امضغ الطّعام وفمك مغلَق."

بالتالي فقيم المجتمع وأعرافه تنتقلُ إلى الطفل بشكل أساسيّ من خلال الأسرة، وفي الإنجليزية وصفٌ شديدُ الدّلالة يُطلَق على الأطفال الذين لم ينشؤوا في ظروف أسريّة طبيعيّة، من قبيل التنقّل المستمرّ بين دور الأيتام أو الانتقال المستمرّ من عائلة لأخرى. هؤلاء الأطفال يوصَفون بأنّهم "Not socialized" أي لم يحصلوا على تنشئة تؤهّلهم للتعاطي مع فكرة المجتمَع والمجموع وما يرتبطُ بهما من قيم، وهذا قد يؤدّي إلى اضطرابات نفسيّة وسلوكيّة واختلالات في في التعطي مع مفاهيم العلاقات الاجتماعية والالتزام الاجتماعي والنظام والقانون وغيرها.

بالتّالي فالمجتمع سابق على الفرد طالما كانت هنالك أسرة، وهذا صحيح حتى في مجتمع ليبيرالي. فكيف استطاعت قيم الفردانيّة أن تخترق حتى هذا النظام شبه الطبيعيّ -الأسرة- الذي يُساهم في تقوية الحسّ الاجتماعيّ على حساب الفردانيّة؟

للجواب أوجه متعدّدة، لكنّ من أهمّها أنّ للقانون الأمريكي يدا طائلة فيما يتعلّق بالأطفال، من ناحية حقوقهم وواجبات الأسرة تجاهَهم، فكثيرٌ مما يتعلّق بالأطفال ليس متروكا لاجتهادات الوالدين، بل هو خاضعٌ لطائلة القانون.

إذا كنتَ تقودُ السّيّارة في الولايات المتّحدة وطفلك ليس مؤمّنا في كرسيّ مخصّص وحوله حزام الأمان فيمكنُ للشّرطة ان تُصادر الطفلَ منك وتضعه في دار رعاية مؤقّتة لحين استجلاء الأمر والتأكّد من عدم وجود نمط متكرّر من الإهمال بحقّ الطفل، وإن وُجدت دلائل على خطر أو إهمال شديد يعانيه الطفل، من قبيل عنف جسديّ أو جنسيّ ضدّه أو كون الوالدين من متعاطي المتخدرات لدرجة تجعل الطفل في خطر، فيمكن أن يؤخذَ الطفلُ من الأسرة وتتبنّاه أسرة أخرى. بالتّالي، تلعب فكرة "حقوق الطّفل" ومسؤولية الدولة عنها دورا مهمّا في ترسيخ فردانيّة الفرد.

كثيرا ما تُعالَج قضيّة تدخّل الدولة في الغرب في شؤون الأسرة والأطفال ضمن فكرة "تغوّل الدولة الحديثة" واقتحامِها لبُنى المجتمع الأخرى، لكن يمكنُ النّظر للأمر من زاوية أخرى، ألا وهي أنّ هذا التدخّل ضمانٌ لحقوق الفرد وحمايةٌ لها بالقانون من أن تُمَسّ، وهذا جدلٌ شائكٌ متّصلٌ بتوتّر كبير داخل النظريّة الليبيراليّة نفسِها، بين اعتبار "القانون" أداة للهيمنة يجب حصرُ تدخّلِها قدر الإمكان -الفكرة الليبيراليّة الشائعة عن الحدّ من تدخّل الدولة- وبين اعتبر "القانون" التجلّي الأسمى للفردانيّة ولفكرة الحق الطبيعيّ.

القفز عن الأسرة إلى الفرد، الطفل خصوصا، يشكّل جزءا أساسيّا من حكاية الفردانيّة في المجتمعات الليبيراليّة عموما، والولايات المتّحدة بوجهٍ خاص.

يُضافُ لذلك تعدّد أنماط الأسرة في المجتمعات الليبيراليّة، من قبيل الأسرة وحيدة الأب أو وحيدة الأم، أو الأسرة التي تجمع بين أبناء من زيجات مختلفة -مثلا، الزوج وابنه من زواج سابق والأم وابنتاها من زواج سابق مع ابنين للزوج والزوجة من علاقتهما الحالية- أو الحالات التي يتنقّل فيها الطفل بين أمّه وأبيه المطلّقَين، بالإضافة إلى الأطفال الذين يُؤخَذون من عائلاتهم بسبب الاعتداء عليهم أو الإهمال الشديد، ثمّ يُلحَقون بأسرٍ أخرى مع اطفال آخرين أو وحدهم مع زوجين. هذه الأنماط كلُّها تُضعِف دور َ الأسرة في بناء إنسان "اجتماعيّ"، بمعنى إنسانٍ يُفكّر في المجتمع قبلَ ذاتِه، أو يفكّر أصلا في التوفيق بين فردانيّتِه والمجموع.

وفوقَ ذلك، ليست الأسرةُ وحدَها من يُربّي، بل تُشاركُها المدرسة والإعلام وغيرهما من المؤسَّسات، وهذه كلُّها تمتلك سطوة هائلة على تفكير الطّفل، خصوصا الإعلام الذي ينفذُ إلى عالم الطّفل بكم مُذهِلٍ يصعب حتّى قياسُه فضلا عن ضبطِه، وبأثر هائلٍ يسهلُ تشرُّبُه لأنّه يُقنِع الطّفل -والفردَ عموما- من مداخل الرّغبات والأحلام، لا من مداخل الواجب والمسؤوليّات والالتزام، فضلا عمّا لوسائل الإعلام من مواردَ هائلة وعلوم متضافرة وخبراء متفرّغين للتأثير والاستقطاب والإغراء، فيما لا تملكُ الأسرة لا وقتا ولا مالا ولا علما يمكّنُها ولو بالأحد الأدنى من مجابَهة هذا الأثر.

بالتّالي، فالقفز عن الأسرة إلى الفرد، الطفل خصوصا، يشكّل جزءا أساسيّا من حكاية الفردانيّة في المجتمعات الليبيراليّة عموما، والولايات المتّحدة بوجهٍ خاص. هذا جانبٌ من الحكاية، أما جوانبُها الأخرى، والتساؤل عن سبب تميّز الولايات المتّحدة في فردانيّتِها حتّى عن المجتمعات الليبيرالية الأخرى، فحديثٌ آخر شائقٌ شائك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.