شعار قسم مدونات

فقط أصغِ بقلبك..

blogs - old man
من أرض المطار، وعلى شوارع بيروت، بدأت تطالعني المباني، وصرت أتأمل تفاصيلها بعين الزائر المستكشف باسترخاء، ثم فجأة رأيت نقاطا سوداء على جدران أحد المباني، شدني الفضول، وظللت ممسكة بحافة نافذة السيارة أنتظر أن توصلني الأمتار على الطريق قريبا منه لأعرف ما الذي أراه..

ولكنها لم تعد نقاطا بل ثقوبا، وبأحجام مختلفة، لدرجة أن حجم بعضها كنت أستطيع أن أرى من خلاله ما داخل البناية التي كانت خالية تماما من أي حياة.. عبست دون أن أشعر، وسرعان ما غابت البناية عن مدى رؤيتي، وعدت لأريح ظهري على كرسي السيارة وأنا أسترجع ما لدي من معاومات حول أحداث مر بها هذا البلد، وصار مشهد هذه البناية يكمل ما سمعته وقرأته عما حدث.. وأنا في لحظة السرحان تلك رأيت بناية أخرى عليها ذات النقاط السوداء بل الثقوب فقد تعرفت عليها قبل قليل، ورغم ذلك شدني المشهد لأميل ثانية نحو حافة النافذة وأتأمل البناية، وما أن اقتربت حتى فوجئت أن هناك من يقطنها، هناك حياة طبيعية خلف هذه الجدران التي كانت أكثر صمودا من سابقتها وأصغر ثقوبا..

كأن الألفة البادية في التحية، والبسمة المطلة من المحيا بين أهل "الضيعة" أودعت الجبل منذ آلاف السنين، فحملها كل حجر لكل بيت، وظل يمدهم بدفء المحبة..

ابتسمت، لم أدر لماذا! ولكني بعد لحظات وعندما عدت الى إراحة ظهري على الكرسي، وجدتني أستذكر مقطعا من أغنية فيروز "سألوني شو صاير ببلد العيد مزروعة ع الداير نار وبواريد" وما أن وصلت للبيت الثاني "قلتلن بلدنا عّم يخلق جديد لبنان الكرامة والشعب العنيد" فهمت لماذا ابتسمت!
ابتسمت لإصرار عنيد على العيش مهما كانت الظروف، لحياة تنبض من رحم المعاناة، ولقصة رواها لي حجر البناية..

في اليوم التالي كان مخططا أن أزور مناطق أثرية وجبلية، وبدأت الرحلة بالفعل، وصار قلب العاصمة يبعد ويبعد والتضاريس تختلف، وبدأت أرى بيوتا على قمم الجبال تحكي قصة أخرى قصة جمال الطبيعة وروعة الحجر والشجر من أعالي جبال متراصفة، كأنها تستقبلك بدبكات لبنانية على إيقاع أصالة وعنفوان، هكذا هي الجبال، ومن منا لم يوظفها رمزية للشموخ والصمود..

وبين تفاصيل هذه اللوحة أطلت معالم أثرية عريقة كان الحجر الجبلي المستخدم في بنائها يروي هو الآخر قصة التنوع والتآلف.. فذات الجبل أخذ منه حجر لمسجد وآخر لكنيسة.. تشاركا الحجر والمكان، وتعايشا لآلاف السنين، حجر الجبل احتضن السكينة والروحانية واستقبلنا بسلام وطمأنينة وكأن الألفة البادية في التحية، والبسمة المطلة من المحيا بين أهل "الضيعة" أودعت الجبل منذ آلاف السنين، فحملها كل حجر لكل بيت، وظل يمدهم بدفء المحبة..

في نهاية الرحلة وفي لحظة السرحان -التي نعيشها عادة كركاب سيارة- ارتسمت ابتسامة استنتاج متسائل كيف لحجر أن يروي كل هذه القصص؟!

بَلا.. أذكر أن أمي في صغرنا جلبت معها مرة في كيس صغير محكم حفنة من تراب أرض جدي، وأذكر رائحته حتى الآن ولونه وملمسه وقصص جدي مع أرضه وقصص أهل الحي وبيوت بنيت من حفنات كهذه..كانت تلك الحفنة خصبة بقصص الوطن الأم، فصرنا نطلب في كل مرة تسافر فيها إلى السودان أن تجلب حفنة الحكايا.. ورغم أنها كانت مختلفة عن حفنة تعودت أن أقبضها لهوا على شواطئ عروس البحر المتوسط "طرابلس الغرب" -حيث احتضنتنا ليبيا وطنا ثانيا- إلا أن شعورا دافئا حملته أيضا حفنة رمال المتوسط المتلألئة، تلك الرمال التي داعبت خطواتي بوداعة حتى كبرت، وأودعَتْ كلماتي لموج البحر ليردها قصصا يسمعني تفاصيلها التي عشت.. نعم.. في بلد كل منا شيء من رحم الوطن يروي ..

قصة الإصرار على استمرار الحياة وعدم الاستسلام مهما خلفت الحروب فينا من أوجاع، وقصة أوطاننا الأجمل دائما مهما حاولوا تشويهها أو اغتصابها أو تغريبنا عنها، وقصة الإنسانية والمحبة والخير والقيم السامية في داخلنا مهما استهدفت وواجهت من شرور.. فقط أصغِ بقلبك..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.