شعار قسم مدونات

فوق كل قدرِ.. قدر

blogs - beren
بريق ألوان الطبيعة، ملمس ورقات شجر الخريف المتساقطة، صوت مطر الشتاء، والموسيقى الهادئة عند تناغمها مع وقت التركيز بالكتابة أو القراءة، كلها أمور طبيعية، ومن شدة طبيعتها أننا لا نعيرها أي اهتمام وتركيز عند حدوثها أمامنا، على الرغم من أن صوت وملمس مطر الشتاء على سبيل المثال يبعث الروح المتهالكة من عقبات الحياة من جديد، ويعطيها الأمل في أنه يوجد حياة جميلة بعد حياة التعب والحزن والكآبة، إنه يعطي الأمل في أن هناك فوق كل قدرٍ نعيشه قَـدر.

كم من مهارة امتلكها البعض منّا جعلها حكرا عليه، فحرم منها من يعتبرها بالنسبة له طوق نجاة من الفقر المدقع لو هو تعلمها؟

ملمس حبّات المطر كان بالنسبة لـ "إيلا" الفتاة الصماء والعمياء في الفيلم التركي "عالمي الخاص Benim Dünyam" شيء لا يمكن تخيله ولا حتى التعرف عليه، وهو بالنسبة لنا جميعا شيء عادي يتكرر كل عام. كان التعرف على الأشياء بالنسبة لها شيء من المستحيلات، على الرغم من أنه بالنسبة لنا شيء نمارسه كل يوم، وتكون الدراسة والتحصيل العلمي بالنسبة لتفكير البعض منّا ترف تجبرنا عليه سنوات الحياة، ولكنه بالنسبة لها كان الحياة التي انتظرتها طويلا.

لا يمكن تخيل شعور ذلك الإنسان الذي فقد أحد حواسه، فما بالكم بشعور انسان فقد سمعه وبصره، فهو لا يرى إلا اللون الأسود القاتم الكئيب، ولا يسمع شيئا، هذا يعني أن الحياة عنده متوقفة، بل إنها بالنسبة له غير موجودة. إن من يظن بأن هذا الإنسان هو الوحيد الذي يعاني من هذه الظلمة الموحشة وهذا الهدوء القاتل فقد جانبه الصواب في ظنّه، فكم بيننا ومعنا من أشخاص يبصرون ويسمعون ولكنهم في عالم غير هذا العالم الذي نعيشه، في عالم سيطر عليهم العجز والكآبة، فأصبحوا لا يروا إلا الظلام الموحش، ولا يعيروا لمسامعهم اهتماما لأي كلمة ممن حولهم، يظنون بأن الحياة قد توقفت عند الفشل الذي هاجم حياتهم بلا رحمة، فحوّلها حزنا وألما، فأصبحوا غير قادرين على الهروب من هذا الفشل للإلتحاق بالنور، وللإلتحاق بالأمل.

لا يمكن أن نلومهم، فقد سلبتهم هذه الظلمة التي يعيشونها نور الحياة، ونور القدرة على الفِعل والتصرف، بل إنه من غير المعقول أن نرهق مسامعهم بكلمات التشجيع أو حتى كلمات النصح ونحن نعلم بأنهم لا يسمعون مثل هذه الكلمات، نحن بهذه التصرفات نكون مثل عائلة "إيلا" الذين أرهقوا ابنتهم تأنيبا وتعنيفا مع كل خطأ ترتكبه متناسين بأن ما تقوم به ليس بمحض إرادتها، فإرادتها قد سلبها الظلام الذي تعيشه. لقد كانت تحتاج شيئا مختلفا، شيئا يأخذ بيدها إلى النور والحياة، شيئا يتمثل أمامها كنموذج تلمسه وتشعر به فينعكس نورا تراه بروحها، تماما كحبات المطر عند أول مرة لامست يداها، هؤلاء الذين سلبهم الظلام النور، يحتاجون إلى مثل هذا النموذج، يحتاجون إلى من يأخذ بيدهم للهروب من الفشل والسير في طريق النور.

إنه لأمر صعب أن تعطي مما منحك الله من نورٍ لغيرك، ولكن تذكّر بأنك الآن تقرأ هذه الكلمات وأمامك من العُمر فرصة بأن تجعل من وقتك جزءا لغيرك لتساعده على الانتصار في معركته ضد الظلام.

ليس بالأمر السهل واليسير، لذلك كان المعلّم "ماهر" في الفيلم يعي جيّدا بأن طريق النور وتبديد الظلام لا بد وأن يكون عبر الفِعل، الفِعل الذي يجعل الإنسان يمشي نحو الضوء دائما، فلا يجعل الظلمة تبتلعه دون أمل. إذا فهو الفِعل المتواصل، أو لنقل الإنجاز المتواصل ولو البسيط هو من يقود الإنتصار على معركة الظلام. لكنه يبقى التساؤل: كيف لمن يعيش في ظلام الإحباط واليأس والعجر والفشل أن يسير نحو الإنجاز ولو البسيط، وهو الذي فقد قوته وإصراره على فِعل أي شيء، بل فقد رغبته من الأساس على ذلك؟ كيف له أن يستعيد ثقته بأنه لا شيء مستحيل في هذه الدنيا، وأن النور له طريق يجب أن يسير فيه؟ الإجابة ليست سهلة، ولكنها أيضا ليست صعبة، فهي دوري ودورك تجاه هؤلاء.

نعم، إنه دوري ودورك، فالحياة لا تعطي لنا فرصا كثيرة لكي نساعد الناس، والجميل هو استغلال هذه الفرص النادرة. إنه أمر يسير إذا وعينا نحن بأن كل نعمةِ نعيش فيها هي من أجل أن نستفيد منها، وليس هناك استفادة أروع من تلك التي نجعل فيها نصيبا لغيرنا، فكم من مهارة امتلكها البعض منّا جعلها حكرا عليه فحرم منها من يعتبرها بالنسبة له طوق نجاة من الفقر المدقع لو هو تعلمها؟ وكم مِن رأي ومشورة امتنع البعض منّا من أن يعطيها لمن يتمنى الحصول عليها رغم سؤاله عنها لتغيّر مجرى حياته كاملا؟ وكم من خدمة يستطيع البعض منّا تقديمها لغيره ولكنه تحجج بضيق الوقت؟ وكم من صديق كان يتمنى لقاءً عابرا بصديقه "ليفضفض له" ولكنه لم يجد هذا الصديق الذي يعطيه من وقته؟ وكم من وقت طويل انتظره البعض منّا ليجد من يأخذ بيده يدّله على طريق النهوض من جديد بعد الفشل؟ وكم من موظّف منع معلومةً عن زميله المستجد بحجة التنافس فجعله يظن بأنه لا مجال لتناقل الفائدة في هذه الدنيا، فتحوّل من إنسانٍ معطاء إيجابي، إلى إنسان يبحث فقط عن مصالحه؟

إنه لأمر صعب أن تعطي مما منحك الله من نورٍ لغيرك، ولكن تذكّر بأنك الآن تقرأ هذه الكلمات وأمامك من العُمر فرصة بأن تجعل من وقتك جزءا لغيرك لتساعده على الانتصار في معركته ضد الظلام، ولتكون مصدرا تثبت فيه بأنه لا شيء مستحيل في هذه الدنيا، ولتسجل اسمك في رحلة إنجاز الشخص الذي عاش بالأمل بأن فوق كل قدرٍ قدر، وأن دوام الحال من المحال، فسبحان الله مقلّب الحال والأحوال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.