شعار قسم مدونات

كيف تغير مواقع التواصل الاجتماعي رؤيتنا لأنفسنا والعالم؟

blogs- facebook
منذ مدة ليست بالبعيدة، أخبرني صديق أن أحد أقاربه كان يشاهد بثاً مباشراً لمدينة حيفا الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال الصهيوني، وذلك عبر تطبيق "سناب شات" الذي يعرض بين فترة وأخرى مقاطع بث مباشر من مدن مختلفة في العالم، وبطبيعة الحال فقد كانت المقاطع القادمة من مدينة حيفا تصوّر الحياة في المدينة بصورة مثالية ورائعة حيث يتشارك الجميع المحبة ويسود الأمان والدفء، كان لهذا البث دوراً في تشكك صاحبنا من شرعية عمليات المقاومة التي تستهدف "المدنيين" في المدن الواقعة تحت الاحتلال الصهيوني.
 
من الممكن القول أن هذه القصة تمثل حالة فردية ولا يجوز تعميمها وأخذها كنموذج للحديث عن التأثير الذي تحدثه مواقع التواصل الاجتماعي في نظرة الفرد لذاته والآخر، إلا أنني أميل إلى اعتبار أنها ترتقي لتمثل نموذجاً لتأثيرات مواقع التواصل الاجتماعي علينا، وإن اختلفت درجات التأثير من شخص لآخر، وهو ما يستوجب الحديث عن الكيفية التي تغيّر بها مواقع التواصل الاجتماعي رؤيتنا لأنفسنا والعالم؟

مع توسع الفضاء التواصلي ووسائله وانفتاحه على آفاق وجماعات بشرية جديدة، تذوب الحدود والفواصل الثقافية بين الجماعات البشرية بصورة أكبر.

بطبيعة الحال فإن وعي الإنسان بذاته وبالعالم إنما يتشكل من خلال الثقافة التي ينشأ بها ويترعرع بداخلها، ومن الممكن تعريف الثقافة كما ذهب عالم الاجتماع الكندي غي روشيه بأنها "منظومة رمزية للتواصل بين أفراد الجماعة الاجتماعية، كيفما كان حجمها، مثلها في ذلك مثل أحد مكوناتها وهو اللغة، كما أنها منظومة للانتساب والانتماء إلى هويات تعمل الثقافة على إنتاجها والمحافظة عليها وتكريسها"، وهي -أي الثقافة- ما تكسب أفرادها خصائص تُورثهم الشعور بالتمايز والاختلاف عن الآخر.

عاش البشر منذ فجر التاريخ على شكل جماعات بشرية قليلة العدد منعزلة ومنفصلة عن بعضها البعض، ومع تعذر إمكانية التواصل مع الآخر بسبب عدم وجود الوسائل الممكنة لحدوث مثل هذا التواصل، أدى هذا الأمر إلى إنتاج منظومات ثقافية متنوعة ومتباينة في واقع الحال.
 

خلال القرون القليلة الماضية وبفضل التقنيات التواصلية التي أنتجتها الثورة العلمية، أصبح بإمكان البشر تبادل الرموز والصور والمعارف والخبرات بسرعة فائقة اخترقوا بها حدود الزمان والمكان، الأمر الذي أدى بطبيعة الحال إلى تذويب الفوارق الثقافية والحضارية بين الجماعات وتشكيل هويات وجماعات كبيرة وواسعة.

يعزو عالم الاجتماع بندكت أندرسن في كتابه الشهير "الجماعات المتخيلة" تشكّل القوميات إلى الديناميات التي أتاحتها رأسمالية الطباعة وبخاصة الجرائد اليومية، وذلك بوصفها منظومة تواصل لغوي ومعرفي وثقافي، عملت على خلق فضاء عام لغوي موحد، يتم بداخله تبادل الصور والرموز والأفكار والقضايا المشتركة بصورة يومية على ذات الأفراد، الأمر الذي أدى على مدى بعيد إلى إعادة تصور الناس لوجودهم الاجتماعي وعلاقاتهم ببعضهم البعض.

ومع توسع الفضاء التواصلي ووسائله وانفتاحه على آفاق وجماعات بشرية جديدة، تذوب الحدود والفواصل الثقافية بين الجماعات البشرية بصورة أكبر، فالقنوات الفضائية التي تجاوز بثها الإطار المحلي لعبت دوراً في تجاوز الوعي القومي الضيق نحو الانفتاح على الآخر وقبوله، وهو ما أشار له علي عزت بيجوفيتش حيث قال: "أن الطفل الذي ينشأ في عصر القنوات الفضائية يكتشف منذ نعومة أظفاره أن هناك في الطرف الآخر من العالم شعوباً تحيا وتفكر وتشعر بشكل مختلف، ما ينبغي أن يولد درجة أكبر من التسامح مع الآخر".

إلا أن جميع وسائل التواصل التي عرفتها البشرية -قبل السوشيال ميديا- خلال القرنين الماضيين سواء أكانت الصحف والمجلات والمطبوعات بشتي أنواعها، أو كانت القنوات الفضائية المرئية، لم يكن لها ذات الأثر الذي تحدثه وسائل التواصل الاجتماعي الحالية، حيث ظلت الوسائل السابقة متاحة بأيدي فئة محدودة يمرروا من خلالها الأجندات والسياسات التي تنفذها هذه المؤسسة أو تلك، بينما تتسم وسائل التواصل الاجتماعي بطابعها العمومي في الاستخدام حيث يستطيع كل فرد أن يؤسس لنفسه منصة يخاطب بها جمهور واسع من البشر.

بعد أن وضحنا العلاقة بين منظومة التواصل وتشكيل الثقافة، نعيد طرح السؤال الذي استهللنا به هذا المقال وهو: كيف تؤثر مواقع التواصل الاجتماعي في رؤيتنا لأنفسنا والعالم؟

لاشك بأن مواقع التواصل الاجتماعي تعزز الثقافة المعولمة التي تنحو -كما أشار السيوسيولوجي المغربي عبدالسلام حيمر في كتابه "سوسيولوجيا الثقافة والمثقفين"- "باتجاه التنميط الثقافي للأمم وشعوب الأرض، وفق قيم وقواعد تتلاءم مع مصالح الشركات المالية والإعلامية العملاقة"، فقواعد مثل الشهرة السريعة والأنانية المفرطة والمنافسة المتوحشة واستبدال الديانات التوحيدية بديانة عبادة المال والشهرة.. إلخ، يجري العمل على تعميمها وترسيخها في وعي ووجدان مستخدمي هذه المواقع.

تكرس هذه الثقافة الانغماس في اللحظة الراهنة، والزمن الحاضر، مفرغة الإنسان من ماضيه ومستقبله، وبالتالي تخلق "إنسان نمطي، ذو بعد واحد زمنياً، مادام وجوده قد اختزل في الحاضر مجرداً من بعديْ الماضي والمستقبل، أي من كينونته التاريخية بما هي القاعدة الأسياسية لتنوعه واختلافه وتوزعه إلى كيانات ثقافية وحضارية متمايزة".

على أي حال فإننا قد نحتاج إلى زمن أطول لمعرفة التأثيرات التي تركتها مواقع التواصل على الثقافة والهوية المحلية.

يلعب الانبهار ببلاغة الصور الإلكترونية المتلاحقة، وومضاتها الخاطفة، وبريقها السريع الهارب دوماً، في تشكل إنسان بلا ذاكرة، ولا هوية، ولا فكر تاريخي، "جاعلة منه كائن اللحظة العابرة دوماً، كائن الأنانية المفرطة التي لا تفكر في الصالح العام إلا بوصفه وسيلة لخدمة مصالحها، كائن السعي المحموم وراء شهرة بلا تعب، وغنى بلا تخطيط وإنتاج"، فالشهرة وحدها هي المقياس التي يقاس بها نجاعة الإنسان وتفوقه وذكاءه وكفاءته.

لا ينبغي أن نعمم هذه النتيجة على جميع الفاعلين والمستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي، فإذا صدق هذا القول على كثير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، فإن شريحة أخرى تستخدم هذه المواقع كمنابر لعرض قضاياها وإيصالها للعالم بغرض التفاعل معها، وليس أدل على هذا سوى الربيع العربي الذي لعبت فيه مواقع التواصل الاجتماعي دوراً مشهوداً في انتشاره وتوسعه الأفقي وديمومة النضال بوجه السلطة، وربما انتبه القائمون على هذه المواقع أنها باتت تؤدي هذا الدور النضالي -والذي يأتي على عكس السياسات التي تقف خلف هذه المواقع- فعمدت إلى إغلاق مئات بل ربما آلاف من الحسابات لأشخاص فاعلين في هذه المواقع كما حدث هذا مؤخراً في كل من الفيس بوك وتويتر.

وعلى أي حال فإننا قد نحتاج إلى زمن أطول لمعرفة التأثيرات التي تركتها مواقع التواصل على الثقافة والهوية المحلية، حيث من المتوقع أن تتجلى هذه التأثيرات بصورة أوضح خلال سنوات قادمة، وباعتقادي فإن هذه النتائج ستشكل مادة ضخمة للدراسات السوسيولوجية والنفسية في الحقبة القادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.