شعار قسم مدونات

دكاكين إعلامية في إسطنبول.. فوضى بلا رقيب

blogs - Media - TV
لأول مرة سأُخلِع قلمي رداءً ألبسته إياه طيلة خمس سنوات مضت، لأكتب شيئاً عن تجربة شخصية عايشتها وتعايشت معها وتعاملت مع فصولها، و ألقت بظلالها على عيوب مجتمعية خطيرة تفتك بالصرح الأول الذي تبنى عليه الحضارة وتصنع به الأجيال، وتواجه به الأزمات، ألا وهو المجتمع.

كما أن ما سأرويه امتداداً لظاهرة مهنية مقيتة غزت وعشعشت في المجال الإعلامي، خاصة بعد تفشي ظاهرة الإعلام الثوري التي لا تزال تقتصر حتى الآن على الجعجعة بلا طحين حتى أصبح مجالاً مسكيناً صعد على أكتافه كل من هب ودب وبات بحراً من الأخطاء.

واذا افترضنا أن مؤسسات الإعلام الرسمية والنهج الذي يسير عليه الإعلام العربي اليوم تغزوه الأخطاء كما يغزو الشيب رأس ثمانيني، فلنا أن نتخيل حجم الكارثة التي نعيشها مع الإعلام الثوري الفارغ شكلاً ومضموناً من أي مخطط إعلامي أو نهج ثابت أو رسالة إعلامية سليمة، والذي زاد الطين بلة على صعيد الإعلام العربي ككل.

ولأن مواقع التواصل الاجتماعي باتت بوابة للتسويق الفوري، وميداناً للصراعات..، فقد نجحت القصة بأخذ حيز إعلامي أكبر مما هي عليه على أرض الواقع.

في قصة بدأت بإعلانات تسويقية لقناة ثورية سورية جديدة ستشرع أبوابها في تركيا، عبر مكاتب مترامية الأطراف، في المدن المفترضة لتركز السوريين، ومكاتب في الداخل السوري إضافة إلى مكتب في لبنان، تطلب العديد من الموظفين (الإعلاميين والصحفيين والفنيين والتقنيين .. إلخ) سرٌ مفضوح إلى حد ما، يجهله البعض ويعرفه البعض الآخر.

يرتبط بشخص مدير القناة وتاريخه ومسار حياته العاثر بالمطبات وبعض الزوايا المجهولة في هذه المسيرة، وبالقناة ذاتها التي لا تزال حتى اللحظة صرحاً وهمياً من صنع إعلانات التسويق عبر (فيسبوك) والتي أصبحت موضع جدال (الفيسبوكيين) وأحاديثهم المستمرة.

ولأن مواقع التواصل الاجتماعي باتت بوابة للتسويق الفوري والسريع لأي حدث جديد، وميداناً للصراعات السياسية والاجتماعية والإعلامية والفنية وغيرها، فقد نجحت القصة بأخذ حيز إعلامي أكبر مما هي عليه على أرض الواقع، وكان للتسويق السلبي أثر على انتشارها أيضاً، فضلا عن (البهارات) التي تليق بنا كشعوب تهوى وضع البهارات في أحاديثها أكثر من طعامها.

لقد استغل صاحب المشروع أو رئيس مجلس إدارة القناة كما يسمي نفسه شبكة من الشخصيات وظفها أو استغل اسمها في الترويج لمشروعه (الإعلامي) وتلميع صورته، وساعده في ذلك تبني شعارات واضحة وصريحة يفتقدها السوريون في القنوات السورية الثورية ويرغبون بسماعها وتبنيها عبر مشروع إعلامي جديد يغطي معاناتهم وهمومهم بقالب مختلف عما تقدمه بقية القنوات الأخرى.

ونظراً لذلك فقد نجح الرجل في اجتذاب عدد كبير من الصحفيين والوجوه الإعلامية التي تقدمت للعمل أو عرضت عليها فرصة العمل هذه في صرح لا معلوم، تلفه الأسئلة والاستفهامات، والتي فضل بعضها أو سوادها الأعظم الاعتذار عن الاستمرار عملاً بالقاعدة الشرعية (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح).

لكن.. من الظلم أن نتهم صاحب المشروع بأنه الاستغلالي الوحيد، فقد دأب فريق آخر على استغلال ما يحدث في خلق حدث للتشهير بأسماء وشخصيات تقدمت للعمل دون دراية أو معرفة مسبقة بالرجل، متجردين من المبادئ التي صدعوا الرؤوس تنظيراً بها، وذلك نتيجة طبيعية للفراغ الأخلاقي الذي يعيشه المجتمع في أحلك ظروفه وأشد أزماته، وأتأسف بعد أن أعترف أننا في بحث دائم عن أحاديث من هذا النوع تثير فضولنا الاجتماعي وتملأ فراغنا الأخلاقي.

إن هذه الفوضى الإعلامية نتاج حقبة من الزمن غيبت فيه أداة القمع السلطوية الجماهير عن الصناعة الإعلامية والوعي بها، مما شكل عند الثورة اندفاعاً لا مدروساً

لقد فتحت تركيا من غير قصد، ومن تحت طاولة القانون، بوابة عريضة لتأسيس مشاريع إعلامية عربية لا يعترف بها القانون التركي، فهي ليست مرخصة كقنوات أصلاً، لكن مسكوت عنها من قبل الحكومة التركية، العاملون فيها بلا حقوق تحت رحمة قطع أرزاقهم والتلاعب بهم فلا عقود تضمن لهم حقوقهم، والملاك في صراع دائم للبقاء والاستمرارية على الرغم من عدم امتلاكهم لمقومات الاستمرار، فضلا عن جو من البغضاء والمكيدة والشللية والتشبيح الذي يلف مجتمع الإعلاميين والصحفيين.

 ولا نبالغ إن قلنا إن غالبية هذه المشاريع أصبحت تجارة رابحة، لا تخضع لأسس الاقتصاد الإعلامي، بل للعبة التمويل واستجلاب أكبر قدر من الأموال من جيب الداعم إلى جيب المالك، وهنا لا يختلف افتتاح قناة فضائية عربية في تركيا عن افتتاح مؤسسة إغاثية مع الفروق البديهية في كلتا التجارتين، أما من الناحية الإدارية والتخطيطية والمهنية في تلك المؤسسات أو الدكاكين (وهو المصطلح الأقرب لتوصيف حالتها) تفتقر لأدنى متطلبات الرسالة الإعلامية ونظريات إيصالها.

كيف لا ومن يشرف عليها ويتصدر شاشاتها كنجم من نجومها لم يفقه في الإعلام سوى أبجدياته الأولى، فالتحصيل العلمي ونوعه تحصيل حاصل هنا وكم المتسلقين على كتف الإعلام فاق أعداد دارسيه وخريجي مقاعده في سوريا والعالم العربي من الجالسين على كرسي إدارة هذه المؤسسات أو العاملين فيها.

إن هذه الفوضى الإعلامية نتاج حقبة من الزمن غيبت فيه أداة القمع السلطوية الجماهير عن الصناعة الإعلامية والوعي بها، مما شكل عند الثورة اندفاعاً لا مدروساً نابعاً عند البعض من الوعي بأهمية الرسالة الإعلامية لكن مع سوء توظيفها واستخدامها، أما عند البعض الآخر فهي ليست أكثر من مكسب يعملون بجل قدرتهم للاستحواذ عليه.

بين الإعلام والمجتمع، رابط خطير يدفعنا دوماً لمعايشة الأثر الناتج عنه ومع هذه الفوضى التي تكتسح الجانبين، لم نستطع حتى الآن تنظيم مجتمعنا لصناعة رسالة إعلامية هادفة، ولا الرسائل الإعلامية اليوم قادرة على تنظيم المجتمع ومساعدته على التخلص من سلبياته.. فأين يكمن الحل؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.