شعار قسم مدونات

تجربة مخاض

blogs- الولادة

إن أي إنسان يدفعه الفضول ليعرف إحساس أمه لحظة مجيئه إلى هذا العالم، وكثيرا مانسأل أمهاتنا عن شعورهن مستمتعين بما يروينه، وهنا أصف تجربة مخاضي بلسان امرأة أصبٓحٓت يوما ما أما..
 

لم تكن التسعة أشهر التي مضت على حملي أياما عادية، كان فيها من الألم والشوق والتغيرات النفسية والجسدية ما يكفي لجعلي أرقب مجيء هذا اليوم بلهفة، فكنت استيقظ كل صباح أبحث في داخلي عن أية وخزة تنبئني بقدومك.. أبحث عن الإحساس بذلك الألم الذي يحكى أنه من أصعب الآلام وأشدّها على الإنسان.
 

مللت الانتظار فالشوق مؤرق والأسئلة كثيرة والأفكار في ازدحام والمشاعر في صدام مع ذاتها، في اليوم الأخير الباقي على وجودك في داخلي استيقظت على حركة عنيفة لم أعهدها من قبل. هجوم منظم بنسق محدد يتكرر كل خمس دقائق على أحشائي وخلايا جسدي ونفسي التي تتقلب وتنتقل من طور الى طور بسرعة عجيبة.. فربما أبكي.. ثم أضحك أو أشعر بالحزن ثم أفرح، أغضب وأهدأ..
 

كانت كلّ طلقة تأتي أحسُّ فيها أنّ روحي تفيض إلى بارئها. بدأت الذّاكرة تضيع ..والحياة تصبح وهماً حقيرا، والأشخاص حولي كالجمادات لا تقدر على تقديم شيء لي.

طيف من المشاعر يتعانق في داخلي.. ومزيج الذكريات يطوف حولي، عن كل شيء، طفولتي، أهلي، وجه أمي، أبي ، أخوتي، أيام المدرسة، الجامعة، صديقاتي، الأشخاص الذين التقيتهم في حياتي، الأماكن التي زرتها، زوجي، أنا.. ماذا سيحلُّ بي، وطفلي القادم. ويراودني شعور بالتشتت والضّٓعف لكن عليّٓ ألا استسلم فلازلت في بداية المخاض، قررت أن أستجمع قواي رددت بعض الأدعية راجية من الله أن يطمئن قلبي.
 

كنت قد هيّأتُ الحقيبة التي سترافقني إلى مكان الولادة لا أذكر كم مرّة أعدتُ ترتيب الأغراض فيها لكنها كثيرة، كنت في كل مرة أحمل قطعها الصّغيرة وأبتسم لها كأن فيها روحا. أشمّها، أضمّها وأقبّلها وأتخيّل طفلي وهو يرتديها. هذا الجورب الصّغير هل سيكون كبيرا على قدمه، أم تلك القبعة الزرقاء هل ستنزل على عينيه.. في الحقيقة تلك الحقيبة لم تكن تحمل الثياب فحسب إنّما كانت تحمل أحاسيس حبي وقطعا من أمومتي المشتاقة.
 

حان وقت الذهاب إلى المستشفى
في الطريق والمخاض عازم على المضي قدما.. كان عليّ أن أُشغل نفسي بشيء ما.. صرتُ أتأمّل الناس في الشّارع.. طفلان يركضان خلف بعضهما البعض ومجموعة شباب واقفين بجانب سيارة يضحكون، وبقرب بقالية رجل غاضب وهو يتحدث على الهاتف، وآخر يبدو عليه قد تجاوز الثمانين من عمره يمشي على مهل، كلّ هؤلاء.. أيّا كانوا بالنسبة لي الآن يجمعهم شيء واحد، أنهم خرجوا من رحم امرأة!

ما أصغر الإنسان وماأقساه عندما يتكبر، ها نحن وصلنا.. يبدو أنه لامجال للمزاح هنا، الجديّة أبرز ما يميز هذا المكان. دخلت غرفة الطوارئ امرأة تصرخ من آلام المخاض على السّرير الأول، وعلى الثاني صوت أنين، والسّرير الثالث بانتظاري.. فحصتني الطبيبة وقالت "إلى غرفة الولادة" مشيت.. باتجاه تلك الغرفة بين الخوف والشوق.. سعيدة بأنني سألتقي بك هناك وخائفة من المجهول.. على كل حال شّديت خطاي ودخلت فذلك قدر لابد منه..
 

ارتديت سترة الولادة وجلست على كرسي محاط بالأجهزة! وجهاز يثبّت على بطني يجعلني أستمع لأرق سمفونية في حياتي صوت نبض الجنين من داخلي يملأ الغرفة، لا ليس الغرفة يملأ كياني، يملأ كوني يتسارع فجأة.. فأدرك أن هناك طلقة قادمة لتمزّق أوصالي.. فأستعدّ لها. ظننت أنها لحظات تفصلني عن الولادة لكن يبدو أن الزمن توقف! ثلاث ساعات مضت بأبطئ مايمكن، التعب يأخذ مني مأخذه.. حزنت لأجله أيضا إنه يتعب، طفلي يبذل جهده إنه يصارع من أجل الخروج.. إلى أين يا ولدي؟
 

ابق في داخلي ابق في عالمي، ربما لن يعجبك هذا العالم.. كنت أحكي معه وأغني له.. إلى أن تقطع الصوت واشتدّ الطلق.. نظرتُ نظرةً خاطفة إلى السّاعة المعلّقة على الجدار خلف كرسي الولادة، أذكر أنها كانت السادسة بعد الفج، وجلست لأستقبل أشدّ لحظات حياتي ألما.. كانت كلّ طلقة تأتي أحسُّ فيها أنّ روحي تفيض إلى بارئها. بدأت الذّاكرة تضيع ..والحياة تصبح وهماً حقيرا، والأشخاص حولي كالجمادات لا تقدر على تقديم شيء لي.. لا فرق بينهم وبين هذا الجدار الذي كنت أتمنى أن ينشق ليفسح المجال لروحي أن تنطلق نحو السماء.
 

في بعض الظروف لا يستطيع الناس تقديم شيء لك مهما صفت نواياهم ووقفوا بجانبك وحاولوا مساعدتك، أنت فقط من تستطيع. أطلب العون من الله فحسب. لا أذكر أنني توجهت لله بالشدّة التي توجهت فيها هذه اللحظة، بل ربما تكون أقدس صلاة صلّاها قلبي مذ تعلّمت الصلاة.
 

أجدُني وأنا أصل إلى هذه المرحلة من المخاض عاجزة عن الوصف.. أيّ كلمات تسعفني في وصف هذا المعنى! أيّ فلسلفة تعبّر عن عمق اللحظة التي أعيشها! هل على كياني كلّه أن يهتز كي أصير أُمّا! تهتز الروح فيني ويتمزّق الجسد.. وجود يخرج من وجود.. قلب يولد من قلب، إنّها معجزة بمعنى الكلمة معجزة أحياها بكامل قواي العقلية.
 

قطعة من جسدي تغادرني، تجرّ نفسها جرّا.. في تلك اللحظة استوى عندي الموت والحياة. كانت قبضة الموت تحاول انتزاعي، لكن يد الحياة أمسكت بي بقوة

أرادت الطبيبة أن تخفف عني وطلبٓت من الممرضة أن تناولني أكسجينا ومهدّئا لكي أنام، لكنني رفضت ذلك قلت لها لا أريد أن أفقد الوعي أريد أن أحسّ بكل شيء.. أن أرى أول لحظة له في هذه الحياة، أن أضمّه، أن أقبّله.. لا أريد النوم لا أريد الغياب إنّها ساعة الحضور، فقط ضعيه على صدري عندما يخرج.
 

حان موعدالطلقة الأخيرة، كلّ ما أذكره أنني شعرت بأسناني تتكسر في فمي وأنني نطقت الشهادتين، وقلت "اخرج اخرج" فحسب. قطعة من جسدي تغادرني، تجرّ نفسها جرّا.. مؤلم هو الرحيل.. لكن الحياة تنتظر من يعمرها، تنتظر بصمتك. في تلك اللحظة استوى عندي الموت والحياة. كانت قبضة الموت تحاول انتزاعي، لكن يد الحياة أمسكت بي بقوة.
 

حملت الطبيبة قطعة لحم كبيرة -كما بدت لي- قصّت الحبل السّري ثم انطلقت الصرخة الأولى. صرخة الحياة.. صوت هزّٓ أرجاء الكون، هزّٓ الروح، دغدغ جسدي المتعب، أنساه كلّ شيء. ناولتني الطبيبة طفلي وضعٓته على صدري أحطته بيدي. ضممته بقوة، وكأني أريد إعادته إلى داخلي من جديد.
 

ينظر إلي وكأنه يعرفني من مئة سنة، يغلق عينيه ثم يفتحهما من جديد.. عينان تقطران عشقا، قلت له "ما أحلاك، ما أجملك" استحضرت كل مفردات الجمال التي عرفتها وذقتها كما لم أتذوقها من قبل، وأحسست به يفهم ما أقول. نعم إنّه يدرك كم هو جميل. كانت هذه أجمل لحظة في حياتي على الإطلاق، كانت كل ذرّة في جسمي وروحي تحمد الله، الله الذي وهبني الأمومة، وشرّفني وكرّمني بها.
 

أما ما بعد الولادة فتلك ملحمة أخرى أقصُّها في مدونتي القادمة إن شاء الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.