شعار قسم مدونات

"محاربة الإلحاد".. المشروع الفاشل

blogs - Exodus: Patterns of Evidence
قبل فترة شاهدتُ فيلما وثائقيّا عنوانُه "Exodus: Patterns of Evidence" وموضوعُه هو خروج بني إسرائيل من مصر، هذا الخروج الذي تذكرُه الكتبُ السّماويّة بكثير من التفاصيل، لكن يُصرّ الرأي السائد لدى علماء الحفريّات والمصريّات القديمة على أنّه لا دليلَ تاريخيّا عليه.

يُجري معدّ الفيلم مقابلات مع علماء من جنسيّات مختلفة ويحملون آراء مختلفة، بعضهُم يُصرّ بالفعل على أنّه ما من دليل على قصّة الخروج برمّتِها، وبعضُهم يذكرُ بعضَ الأدلّة بحذر، وبعضهم يُصرّ على أنّ الأدلة موجودة بل قويّة جدّا ولكنّ العلماء يتجاهلونَها؛ لأنهم يبحثون في أمكنة وأزمنة خاطئة بسبب انحيازات مسبَقة، بل يصلُ الأمر ببعضِهم إلى اعتبار أن تقسيمَ حقب التاريخ المصريّ القديم برمّته خاطئ ويحتاجُ تعديلاتٍ جوهريّة لكي يتمكّن العلماء من وضع أدلّة الخروج التاريخيّة في سياق صحيح. الفيلم رحلة تاريخيّة مُثيرة وأنصح بمشاهدته، لكنّ ما يهمّني هُنا ليس ثبوت قصّة الخروج من عدمِه.

كثير من القضايا التي تدورُ حولَها نِقاشات الإيمان والإلحاد ليست "شُبُهات"، بل معضلات إنسانيّة عميقة، بعضُها يحتاج جهدا وبحثا قد يمتدّ لعقودٍ أو قرون ليمكنَ البتّ فيه.

ما لفتَ نظري هو عظمة الجهد البحثيّ الذي بذله علماء الحفريّات والمصريّات عبر عقود متطاولة لاكتشاف التاريخ المصريّ القديم وما ارتبطَ به من تواريخ شعوب المنطقة. مساحات هائلة من الأرض تُحفَر، وآثار تُعامَل بمنتهى الدقّة والحرص بحثا عن دليل، ومخطّطات هندسيّة توضَع للمدن والبيوت، ورسوماتٌ توضيحيّة، ومقارنة مُضنيَة بما سبق اكتشافُه في المنطقة لوضعِه في سياقه، ومؤلّفات ضخمة تشرح وتوضّح بالكلام والرسوم والمقارنات. لم يحصل هذا في مساحات شاسعة من مصر فحسب، بل حصل كذلك في المدن الفلسطينيّة التي ارتبطت بها قصّة الخروج، من أريحا إلى بيسان. جهود مضنية وسنوات طويلة وأموال طائلة، مشروعٌ ضخم لاستنطاق التاريخ يحتاجُ هو بذاتِه إلى تأريخ وتخليد.

لدى بعض مُحاربي الإلحاد، إنكار قصّة خروج بني إسرائيل من مصر هو "شُبهة" يجبُ ردُّها، وقبلَ الحديث عن اختلال هذا التصوّر، يجبُ التوقّف أولا مع هذه الكلمة. "شبهة" لفظة توحي بأنّ تبنيّ موقفٍ مُخالفٍ ناتجٌ عن اشتباه، أي عن مجرّد اختلاطٍ أدّى إلى أن "يشتبِه" الأمرُ عليك. هذا يُمكن أن ينطبقَ على قضايا محدودة، لكنّ كثيرا من القضايا التي تدورُ حولَها نِقاشات الإيمان والإلحاد ليست "شُبُهات"، بل معضلات إنسانيّة عميقة، بعضُها يحتاج جهدا وبحثا قد يمتدّ لعقودٍ أو قرون ليمكنَ البتّ فيه، وبعضُها لا نمتلك كبشرٍ حتّى الآن الأدواتِ التي تمكنّنا من البتّ فيه، وبعضُها يُمكنُ أن ينتهي الوجود الإنسانيّ برمّتِه قبل أن نتمكّن من البتّ فيه.

وما سبقَ ينطبقُ على القضايا التي يحتاجُ البتُّ فيها إلى أدوات أفضل أو تقنية أكثر تطوّرا أو حفريّات لم تكتشَف أو معلوماتٍ لم تظهر، لكنّ بعض قضايا الإيمان والإلحاد ليست كذلك أصلا، بل هي قضايا أخلاقيّة وفلسفيّة يتّخذُ المرءُ منها موقفا وجوديّا حرّا، وليست مرتبِطة ببحثِ علميّ وليست موضوعا علميّا أصلا، مثل سؤال الشرّ، وسؤال قدرة الإنسان على تحديد الأحكام الأخلاقيّة من دون دين أو وحي. هذه كلّها ليست شبُهات، بل اختيارات إنسانيّة عميقة، تترتّب على اتّخاذِ أي موقف منها نتائجُ عميقة وبالغة الخطورة والأثر، هي اختياراتٌ وجوديّة بكلّ ما يمكنُ للكلمة أن تحملَ من معنى.

إذن، ما يبدو للبعضِ شبهة، مثل قصّة خروج بني إسرائيل، هو في الحقيقة سؤالٌ ضخمٌ تتضافرُ عدّة علوم من أجل البدء في جوابِه، ويجب أن تُبذَل جهودٌ هائلة وأموالٌ طائلة وعقولٌ متميّزة من أجل اكتشاف غوامضِه وامتلاك مفاتيح الجواب فحسب، فضلا عن الترجيح أو الحسم الذي قد لا يأتي. يكاد الأمر نفسُه ينطبقُ على سائر الأسئلة الضّخمة التي يدورُ حولَها نقاشُ الإيمان والإلحاد، مثل أصل الكون ونشأة الحياة واختلاف الكائنات وتشكّل الحسّ الأخلاقي وكيفيّة عمل الدّماغ وقصص الأنبياء السابقين وتاريخ روايات الكتب السماويّة والأحياء الدقيقة والجينات وغيرِها. اختر أيّ سؤالٍ من هذه الأسئلة، وستجدُ أنّه أصبح بالفعل مرتبطا بمجموعة علوم لا علم واحد – وبعضُها مرتبطٌ بتكنولوجيا شديدة التطوّر والتعقيد وباهظة التكلفة- وأُلّفت فيه كُتبُ مطوّلة، وكُتِبت فيه أبحاثٌ لا تُحصى، وتتخصّص فيه مجلّات علمية يحتاج تعدادها فهرسة، وانقطعَ له باحثون لا حصرَ لهم ويصعبُ حتى فهمُ تخصّصهم الدقيق ولو إجمالا. لم يعد ممكِنا اليوم لشخصٍ يحترم نفسَه أن يقولَ رأيا في هذه القضايا إلا بعد جهود علميّة مضنية.

بل إنّ أكثر جهودِ محاربة الإلحاد تستندُ في الحقيقة إلى جهودِ العلماء الذين أنتجتهم هذه المنظومة، فلا يمكنُ لمحاربي الإلحاد أن ينقدوا بعضَ نظريّات نشأة الحياة أو الكون أو غيرِها من هذه الموضوعات من دون الإشارة إلى بحث غربيّ تتعارضُ نتائجُه مع الموقف الإلحاديّ، أو عالم غربيّ يتبنّى موقِفا مناهِضا للنظريّات المتّسقة مع الإلحاد. هذا أمر لا مشكلةَ فيه، فالبيولوجيّ الملحد يستخدمُ نتائج الفيزيائيّ الملحد حتّى ولو لم يكن هو نفسُه متخصًصا في الفيزياء، لكنّ المهمّ هو أنّ هناك منظومة ضخمة لإنتاج المعرفة وتطويرِها ونشرِها وتبادلِها وتعظيمِها، وهي منظومة عظيمة التأثير وشديدة الكفاءة، ولا يُمكن مُضاهاتُها ومقاومة أثرِ انحيازاتِها بمجرّد استخدام بعضِ منتجاتِها.

ليس ما أدعو له هو التوقّف عن مناقشة الإلحاد، بل التحوّل إلى منتجين للمعرفة بدل الاكتفاء بكونِنا مطبّقين تقنيّين لها أو محاولين لتكييفِها فلسفيّا بما ينزعُ عنها ما نراه مخالفا للدّين أو مُشجِّعا على الإلحاد.

لكنّ هذه الاستعانة الجزئيّة ببعض منتَجات المنظومة المعرفيّة الغربيّة، حتّى وإن كانت مفيدة في مشروع محاربة الإلحاد على المدى القصير أو في بعض الحالات، إلا أنّها تؤدّي باطّراد إلى خلاف الغرض منها، فالمُتابع لا يُمكن له إلا أن يتعرّض لسائر الآراء التي تنتجُها المنظومة، بما فيها الآراء المنسجمة مع الإلحاد أو المنادية به بصراحة. يُضاف لذلك أنّ هذه المنظومة تقومُ أساسا بإنتاج المعرفة، وفي الإنسان شغفٌ دائمٌ إلى المعرفة وما يرتبطُ بها من نفعٍ بشريّ أو امتلاكٍ للقوّة أو تجاوبٍ مع رغبة الإنسان الفطريّة في أن يوسّع من دائرة علمه، من سؤال نشأة الكون إلى نشأة الإنسان إلى مجاهل المجرّات إلى غوامض العقل البشريّ، وبالتّالي فهذه المنظومة مغرية لأسباب كثيرة، والانبهار بها أمرٌ فطريّ بل هو المتوقّع من إنسان سويّ لأنّها تتجاوبُ مع طموحات الإنسان في امتلاك المعرفة وحيازة القدرة وإطالة العمر وإدامة الصّحة وتكثير الرزق.

وفي ضوء ذلك، ليس مستغرَبا أن ينتقل إعجاب المرء بما هو علميّ في هذه المنظومة إلى إعجاب بما ليس علميّا بالضرورة فيها، من قبيل النظريات حمّالة الأوجه والاستنتاجات المتأثّرة بالموقف الفلسفيّ المسبَق والتطبيقات الاجتماعيّة للمعرفة المتأثّرة حتما بكلّ مجتمَع، فضلا عن أنّ جزءا ضخما من المعرفة التي تنتجُها هذه المنظومة ينطلقُ من افتراضات فلسفيّة ووضعيّات اجتماعيّة ومنطلَقات نفسيّة ليست بحدّ ذاتِها مسلّمات علمية، بل اختيارات حرّة أو أوضاعا اعتباطيّة أو مجرّد ظرفيّات متأثّرة بشدّة بطبيعة المجتمع/ات التي تًنتِج المعرفة. بل يتعدّى الأمرُ ذلك إلى إعجاب عامّ بالمجتمعات التي تُنتِج هذه المعرفة، سواء بما هو عاديّ ومُحايدٌ فيها، أو حتّى بما هو سلبيّ وسيّءٌ وضارّ فيها.

تبعا لسائر ما سبق، ليس ما أدعو له هو التوقّف عن مناقشة الإلحاد، ولا التقليل من جهود أو حسن نيّة من يؤمن بهذا المشروع، بل ما أدعو له هو التحوّل إلى منتجين للمعرفة بدل الاكتفاء بكونِنا مطبّقين تقنيّين لها أو محاولين لتكييفِها فلسفيّا بما ينزعُ عنها ما نراه مخالفا للدّين أو مُشجِّعا على الإلحاد. هذا مشروع ضخم سيكون من المجازفة الشديدة حتى أن أبدأ الحديث عن تصوّر له، حيث تتداخلُ فيه اختيارات الأفراد بمشاريع الدّول، والاقتصاد بالسيّاسة، والموقف الفلسفيّ من العلم بظروف مجتمعاتِنا بالغة السّوء.

لكن إذا كان على كلّ إنسان أن يفعلَ ما بوسعِه، فما بوسعي هو قولُ كلمة قد تُغيّرُ تفكير شخصَ واحد تجاه هذه القضيّة، وهذا نجاحٌ كافٍ. إذا قرّر شخصٌ واحدٌ ممن يحاولون محاربة الإلحاد أن يُصبح بيولوجيّا مقتدِرا، أو طبيبَ نفسٍ مطّلعا، أو فيزيائيّا مدقٌقا، أو أنثروبولوجيّا واعيا، أو عالمَ أعصاب فذّا، وإذا تكاثر هؤلاء وأمثالُهم وأصبحوا منتجي معرفة، وإذا تحوّل الدارسون المتناثرون إلى تجمّعات علمية حقيقيّة، واستطاعوا امتلاك رؤية نقديّة تؤهّلهُم لتمييز الحقائق من الأطر الفلسفيّة والمقدّمات النفسيّة والظروف الاجتماعيّة، واستطاعوا المزج بين إنتاج المعرفة ونقدِها، وتمكّنوا من توسيع الدائرة الممكنة من الافتراضات المسبَقة والتأويلات المحتمَلة والاستنتاجات الواردة، وإذا بدأ ذلكَ كلّه ينعكُس على الوعي العامّ بأنّ المعارف والعلوم ليست كلّها حقائق بل فيها تعسّفات وتحكّمات واستنتاجات متأثّرة بشدّة بشخص الباحث وظروفه وتمويله ورؤيتِه الفلسفيّة، فسيكون تغييرٌ حقيقيّ قد بدأ، وسيكون هذا أفضلَ للإيمان وللإنسان.

لستُ غافلا أبدا عن ما يحتاجُه مشروع كهذا من نظم سياسيّة رشيدة، ومؤسّسات أكاديميّة رساليّة، وحريّة رأي تسمح بتعدّد المواقف، ورأسمال حرّ وشجاع يستثمرُ في المعرفة والعلم، وهذا كلّه للأسف في أسوأ حالاتِه في سياقنا العربيّ. لكنّ هذا لا يُعفينا من مهمّة البحث المتواصل عن فهم أفضل للقضايا، وتطويرٍ موقف أوعى بها، وتوسيع دائرة النّقاش فيها، وتقليبِها على أوجهها الممكنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.