شعار قسم مدونات

الموت واختبار الإيمان: بين داروين ودوستويفسكي

blogs - dar
تُنسَب إلى الأديب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي مقولةٌ صادِمة إلى حدّ ما، وهي: "إن استطعتُم أن تقنعوني أنّ الله ليس هو الحقيقة، وأنّ الحقيقة ليست هي الله، فإنني سأختارُ أن أتمسّك بالله وأن أتخلّى عن الحقيقة". وإن الناظِر في هذا الاقتباس، وفي سيرةِ دوستويفسكي عموماً، يعلَم عِظَمَ الاختلاف ما بين شخصيَّة دوستويفسكي وتكوينهِ الفكري، وبين شخصيّة عالِم البيولوجيا الكبير تشارلز داروين وطريقتِهِ في النّظر إلى الحقائق. فإنّ داروين هو الذي قال: "على رجُلِ العِلم أن لا تكون لهُ أمنيات أو عواطِف، وأن يكون قلبُهُ مقدوداً من الصَّخر".

وقد يتعجّب القارىء عند قراءتهِ لعنوان المقال ويسأل عن العلاقة التي تربط بين العالِم الأحيائي اللاأدري، والأديب الروائي المؤمن. فمِن الواضِح أنْ لا علاقة تجمعهُما على الصعيد العملي، ولكن القارىءَ لسيرتَيهِما يعلمُ أن هُنالِك رابطةً قويّة جداً تجمعُهُما على الصعيد الإنساني. فقد توفّيت "آني" ابنة داروين وهي بعدُ صغيرة، وكذلك توفّيت "سونيا" ابنة دوستويفسكي في عامِها الأول، وأيضاً "ألكسي" ابن دوستويفسكي قبل أن يُكمِل عامه الثالث. وقد كان لكُل وفاةٍ أثرُها العميق في حياة الأبوين الكبيرَين.

العلم الصرف يقتل شيئاً من الروح، بينما يفعل الأدب في الروح فِعلَ الماء في الأحياء.

رُبّما تكونُ وفاة الأطفال الصّغار مِن أقوى الأمثلة على الحُجّة الفلسفية المعروفة بِـ "حُجَّة الشَّر"، وقد كانت هذه الحُجّة ضِمن أهمّ أسباب الإلحاد في القديم والحديث. وهي تتلخّصُ في أنَّ هذا الكمّ الهائل من الموت والحروب والدّماء البريئة في هذا العالم، لا يُمكِن أن تكون صادرة عن إله رحيم وعادِل. لذلك فإن هذا الشرّ غير المبرر هو دليل صارخٌ على أنّ الإله الرحيم الذي يؤمن به الناس، ما هو إلا وهمٌ جميل. فإما أن يكون الإله شريراً، وإما أن يكون غير موجود أصلاً.

لن أحاوِل، فيما تبقّى من المقال، دَحضَ هذه الحُجّة ولا تأكيدها ودعمها. بل سأحاوِل إثارة سؤالٍ أهمّ، وهو: ما سِرُّ هذا الاختلاف المُثير، بين استجابة داروين واستجابة دوستويفسكي لمُشكلة الشرّ المتمثّلة في وفاة مفاجئة وغير مبررة لأطفال صِغار؟ لماذا دفَع الشرُّ داروين للشكّ، بينما دفَع دوستويفسكي لليقين؟

هُنالِك اعتقادٌ خاطىءٌ في أوساط المهتمّين بداروين ونظريّتِهِ في التطوّر، أنَّ سبب شكّ داروين في وجود الله وتحوُّلهِ من الإيمان إلى اللاأدريّة، هو اكتشافاتُهُ المتعلّقة بتطوّر الأنواع. وقد تمّ إزالة هذا اللبس في الكِتاب الذي ألّفهُ الكاتِب الأمريكي نِك سبينسر بعنوان "داروين والله". حيثُ وضّح لنا أن السبب الحقيقي في شكّ داروين هو وفاة "آني"، أي أن الذي زعزع إيمانهُ هو حجّة الشرّ الفلسفية في المقام الأول. فقد تساءل داروين إثر وفاة ابنتهِ عن السبب الذي يدفع الإله الرحيم لحرمان طفلة صغيرة من مباهج الدنيا، إلى أن قادتهُ أسئلتُهُ إلى اللاأدرية.ِ

ونرى في المُقابِل، أن ذات الأسئلة كان لها أثرٌ معاكِسٌ تماماً في حالة الأديب دوستويفسكي، فإثرَ وفاة ابنتِهِ الحبيبة وابنهِ الأعزّ انكسَر قلبهُ وامتلأ عقلهُ بالأسئلة، إلى أن قادتهُ إلى تقبُّل المأساة والنّظر إليها من زاوية أخرى. وقد كان بعد مأساتِهِ، حسبَ ما ذكرت زوجتُهُ في مذكّراتها، كثير الدُّعاء بأن يجتمع مع ابنهِ وابنتِهِ في الآخرة.

لطالمَا وقفتُ عند هذه المُفارقة أتأملُها وأقلّب النظر فيها. أنا، بالتأكيد، لا أشكّ في حيادية داروين وصِدقِهِ وروحِهِ العلميّة حتّى أدمَغَهُ بتُهمة "إرداة الشكّ والإلحاد" كما قد يفعَل كثيرون ممّن لم يتعمّقوا سيرتَهُ جيّداً. ولستُ أشكّ أيضاً في عَظَمة روح دوستويفسكي وصِدقِهِ وعقلِهِ الفذّ حتّى أتّهِمَهُ بالتّبعيّة العمياء أو الخوف من السلطة الدينية. فمِن هذه الناحية كِلا الرّجُلَين ثقةٌ عندي. ولكنّ تفسيري الشخصي لهذه المُفارقة، هو أنَّ العالِم الطبيعي يختلِف في تركيبتِهِ العقليَّة عن الأديب أو الروائيّ. في اعتقادي أنَّ العِلم الصّرف يقتُلُ شيئاً من الروح، بينما يفعَلُ الأدب في الروح فِعلَ الماء في الأحياء. لذلك نجِدُ في العادة نوعاً من التصلُّب الروحي عند العُلماء الجادّين، وعلى النقيض منهُ نجِدُ انفتاحاً روحياً عند الأدباء والروائيين والفنانين عموماً.

إذا جمَعنا عقلية داروين العلميّة إلى روح دوستويفسكي العظيمة التي ترى الحِكمة وراء الأفعال، قد ينتُجُ عندنا جيلٌ مثقّف ثقافةً حقيقيّة ومتوازِنة

قد يجِدُ البعض هذا الكلام مُجحِفاً في حقّ العلماء، ولكن من الخطأ أن يؤخَذ كلامي على محمَل التعميم، فالعُلماء الذين عَنَيتُهُم هُم الصِّنف الشبيه بداروين في انغماسِهِ المفرط في العِلم. وفي نقدي لهذا النّوع من العُلماء يؤيّدني داروين نفسُهُ، إذ كتَبَ يقول في مذكراتِهِ ناقِداً الانغماس المُفرط في العِلم: "لو قُدّر لي أن أحيا حياةً جديدة، فسوف أجعلها قاعدةً في حياتي: أن أقرأ الشعر وأستمِع إلى الموسيقى على الأقل مرةً في الأسبوع". فقَد أحسّ داروين بالجَدب الروحي الذي خلَّفَهُ فيه العِلم بعد أن استهلَكَ نفسَهُ فيه، فأوصى بالاهتمام بالفنون وعدم الغرق في مستنقع العِلم وحدَهُ.

وقد تكونُ هذه الوصيَّة خير ما يوصَى بهِ شباب اليوم، خاصَّة أولئك التائهين الذين يفتقدون التوازُن في حياتِهِم. فإنّ زُبدة ما يُمكننا أن نستفِيدَهُ من تجارِبِ داروين ودوستويفسكي هُوَ التّوازُن. فإذا جمَعنا عقلية داروين العلميّة إلى روح دوستويفسكي العظيمة التي ترى الحِكمة وراء الأفعال، ساعتَها قد ينتُجُ عندنا جيلٌ مثقّف ثقافةً حقيقيّة ومتوازِنة، ترعى العقل وتُقَدّر الحقائق، وتَرعى الروح أيضاً وتتّخِذُ منها حبلاً متيناً تعتصِمُ بهِ من الانزلاق في وحل الماديّة المحضة.

هذه هي الثقافة التي يجِبُ أن نتطلَّعَ إليها. لا تلك الثقافة الرخوة التي تهتزّ وتكاد تنهار أمام عِندَ كُلّ اختبار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.