شعار قسم مدونات

القرآن نص أم خطاب؟!

blogs - quran
من بين أخطر المحاولات لقراءة المدونة القرآنية تلك القراءة التي قدمها المفكر السوري د. محمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن". وتكمن خطورة هذه القراءة في كونها تقوم على مقدمات وجيهة ومنهج علمي يبدو في الظاهر متماسكا. ولأنها قراءة جادة وخطيرة في نتائجها فقد كان من حقها أن تحظى بعناية النقاد والمفكرين، ليس فقط لبيان خطئها من صوابها، وإنما أيضاً لتطوير منهجها بما يخدم الفعالية النقدية بصورة عامة.

تكشف قراءة شحرور للقرآن عن وجود نموذج إدراكي في ذهن الرجل يتصف بالمثالية، من مظاهر هذه المثالية تصوره للقرآن وكأنه كون مغلق مستقل بذاته، ينطوي على شروط فهمه دون النظر إلى الملابسات الخارجية التي تنزل فيها.

القرآن لا يتوقف عند حدود الجدل مع التراث الديني والتاريخ المدني السابقين عليه، بل إنه يدخل في ممارسة جدلية مع كل شيء يحيط بالإنسان.

أي أنه ينظر إلى القرآن باعتباره نصا لا باعتباره خطاباً. فالنص هو متوالية كلامية مكتفية بذاتها، تتضمن في داخلها شروط تفسيرها، أما الخطاب فهو حالة تداولية جدلية، تقع في وسط العملية الاتصالية بين المرسل والمستقبل، بحيث تخضع في تفسيرها لشروط وملابسات عملية الاتصال ذات المستويات الستة حسب مخطط رومان جاكبسون.

لا شك أن شحرور قد أعطى عناية خاصة لأحد تلك المستويات في مخطط وظائف اللغة الست، وهو مستوى "الشفرة" اللغوية، إلا أنه أهمل تماماً الوظيفة المرجعية للغة القرآنية، تلك التي تحيل على السياق التاريخي لظهور القرآن الكريم.

وهي وظيفة أساسية في فهم المدونة القرآنية، ليس فقط باعتبار أن الجمل القرآنية تنزلت وفقاً لشروط الواقع الاجتماعي والتاريخي في القرن السابع الميلادي، وإنما أيضاً لأن القرآن يضع نفسه في سياق طويل من التاريخ الكتابي، مشتبكاً مع العديد من الكتب والصحف الدينية التي سبقته، اشتباكاً يجعلها شرطاً أساسياً في فهمه، واستجلاء أسراره.

يدرك هذه الحقيقة كل من له دراية بالكتب المقدسة الثلاثة: التوراة، الأناجيل، القرآن. فهو وحده الذي يمكنه معرفة سرّ هذه الآية القرآنية أو تلك من الآيات التي لا يمكن لأي فقيه مسلم معرفتها ما لم تكن لديه معرفة كافية بالكتب الدينية السابقة.

فعلى سبيل التمثيل لا يمكن للمفسر المسلم معرفة مغزى عبارة "من غير سوء" في قوله تعالى مخاطبا موسى "وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ"، ما لم يطلع على التوراة، فهذه العبارة جاءت لتصحيح ما ورد في التوراة عن هذه الواقعة، فقد رأى مدونو التوراة أن موسى قد أصيب بالبرص!، وهذه عقوبة وليست آية!. كما لا يمكنه فهم مغزى عبارة "وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا" على لسان المسيح عيسى في سورة مريم، ما لم يعرف أن الأناجيل قدمت المسيح في صورة الرجل غير المهذب مع أمه، فقد كان يناديها بلفظ "يا امرأة" ويعاملها بجفاء في أصعب موقف قد تمر به الأم، وهو موقف صلب ابنها.

بل إن التاريخ المدني نفسه يصبح شرطاً في فهم بعض جوانب القرآن وإزالة اللبس الذي قد ينشأ عنها، مثل اللبس الحاصل في قوله تعالى على لسان فرعون "وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي"، فقد طرح البعض تساؤلاً وجيهاً يقول: عن أي أنهار يتحدث القرآن وليس في مصر سوى نهر واحد هو نهر النيل؟!.

والسائل لا يعلم –وهو معذور– أن مدينة رمسيس قد بنيت في الدلتا على ثلاثة أفرع للنيل، كانت تسمى عند المصريين أنهاراً. وقد جف فرع من الثلاثة وبقي فرعا رشيد ودمياط.

لعل أسوأ ما حدث للقرآن حتى الآن هو أن الفلاسفة والمفكرين لم يصلوا بعد إلى بناء نظري محكم عن النظام المعرفي البياني.

والقرآن لا يتوقف عند حدود الجدل مع التراث الديني والتاريخ المدني السابقين عليه، بل إنه يدخل في ممارسة جدلية مع كل شيء يحيط بالإنسان، وما حديثه عن بعض الظواهر الكونية والنفسية واللغوية والغرائبية –مثلاً– إلا شكل من أشكال الجدل مع الفيزياء وعلم النفس وعلوم اللغة والسيمياء. وكأنه بهذا يستدعي كل هذه الاختصاصات لإقامة حوار بناء معه. حوار موضوعي يستند إلى منطق العلم وأدواته. وهذا هو الأمر المتوقع من كتاب يزعم أنه سماوي المصدر.

لا شك أن الدكتور شحرور قد أبدع كثيراً في محاولة تقديم قراءة جديدة للمدونة القرآنية، ولا شك أيضاً أن هذه المدونة بحاجة إلى المزيد من المحاولات التي تكشف طبيعتها وتستخرج أسرارها، إلا أن هذه المحاولة الجريئة التي قدمها شحرور قد وقعت في أخطاء منهجية هي ثمرة لأخطاء إدراكية.

فقد تحول النموذج الإدراكي في ذهنه إلى نموذج تحليلي، ولأنه نموذج مثالي فقد تعامل مع لغة القرآن وكأنها لغة تسويرية رياضية كلغة الفلسفة اليونانية. في حين أن لغة القرآن تتبع نظاماً معرفياً مختلفاً عن النظام البرهاني الذي تمثله لغة المنطق اليوناني. إنها تتبع النظام المعرفي البياني كما تحدث عنه المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه "بنية العقل العربي".

ولعل أسوأ ما حدث للقرآن حتى الآن هو أن الفلاسفة والمفكرين لم يصلوا بعد إلى بناء نظري محكم عن النظام المعرفي البياني، كما حدث مع النظامين الآخرين البرهاني والعرفاني. فكثير من المشكلات المثارة في وجه القرآن هي ثمرة قصور في معرفة هذا النظام الذي يعد بمثابة السقف الفلسفي للقرآن.

وكان العبد لله كاتب هذه السطور قد حاول قبل سنوات وضع خريطة بحثية للإسهام في بناء تصور واضح لهذا النظام، لولا أن دوامة الحياة تأخذه من هم إلى آخر كما هي حال اليمني في بلاد واق الواق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.