شعار قسم مدونات

رحلة البحث عن منفى

blogs-سوريا

لا شيء يشبه الإنسان كما ظلّه الذي ترسمه له الشمس إذ ما وقع تحت ناظريها، أما إذا هجرها الإنسان أو اختبئ منها فتجرده من الظل الذي اعتاد الحياة معه، كذلك هو الوطن فهو شمسنا الذي تخلق لنا أشباهاً في بقعة جغرافية محددة نعيش فيها بشغف.

أما في المهجر أو المنفى فلا يملك الإنسان ظلاً يشبهه، يستأنس به، يتبادل معه الحديث في الطريق العام، يخبره عن أحلامه البعيدة وأفكاره الساذجة التي يخجل أن يحدث بها العامة.

في المنفى يفتقد الإنسان لشمس بلاده فيحيّا لوحده دونما ظلّاً يكتم له سرّاً أو يخبئ له عيباً، أو يلتمس له عذراً، فإذا ما باح الإنسان لنفسه ستسارع الأخيرة لفضحه بالصمت المريب أحياناً وأحياناً أخرى بالدموع التي لا تستطيع النفس مقاومتها، فهي لا تملك جلداً كالظّل.

في رحلة البحث عن منفى يتسع لوطنٍ مخبأ في كل شيءٍ فينا، نجد سوريتنا خارج حدود المكان والجغرافيا المؤطرة، نراها في كل تفاصيل الحياة اليومية.

لسوء حظنا كسوريين فقد أملى علينا القدر خيارين أحلاهما مر، فإما أن نبقى بالوطن ونواجه مع ظلالنا الموت الذي يجتاح بلادنا منذ ست سنين، وإما أن نغادر كلٍّ بمفرده تاركاً ظله الذي رافقه طوال تلك السنين خلفه، باحثاً عن غيره في الشتات والمنافى.

في نهاية الأمر لا خيار أمام السوري الذي تقطّعت به سبل الحياة في بلاده سوى أن يفرّ من الموت العبثي الذي يمتد على طول الجغرافيا المحلية ليطال الجهات الأربع للبلاد، ويرسم خارطة جديدة للبقاء، يحاصر الحدود ويغلقها أمام الهاربين بأعين صغارهم البريئة بعيداً عن جنون الحروب.

نطوف أصقاع الأرض بحثاً عن ملجئ يأوي كل ما نحمل من ذاكرة مشبعة بالألم، مرصعة بالحنين، نشيح بعيوننا المرهقة من سطوع الدم بعيداً عن الحدود، نصمّ السمع عن سمفونيات الرصاص ومعزوفات الغارات الجوية المصحوبة بالرعب، وصرخات الثكالى.

نركض صوب وردةٍ جورية تشبه تلك التي تركناها وراء الحدود متعطشين لنثمل بعضاً من رحيقها الفواح علّنا نزكي أنوفنا من روائح البارود، فتصيب مرآنا بلونها القاني كالدم لتعيد للحياة بومضةٍ كل ما دفناه من وجعٍ في مقبرة الذاكرة، فترهقنا كما يرهق السراب أولئك المتهالكين من الظمأ عندما تبتلع آمالهم الصحاري الشاسعة.

نسير من بلدٍ لآخر حائرين، لا نعلم إن كنا متعبين أم خائفين، نحمل أحلامنا العارية، نحن السوريون الذين أصابتهم لعنة الرحيل المفاجئ. نأوي للذاكرة البعيدة علّها تساعدنا في لملة أشلاء أذهاننا المبعثرة فيقذفنا الماضي للحاضر ويرمينا الحاضر للمجهول.

في رحلة البحث عن منفى يتسع لوطنٍ مخبأ في كل شيءٍ فينا، نجد سوريتنا خارج حدود المكان والجغرافيا المؤطرة، نراها في كل تفاصيل الحياة اليومية، على موائد إفطارنا في الزيت والزيتون الذي أنجبته أرضنا لهذا العالم بأول غرسة زيتون، وفي لغات المنافي المتعددة والتي يُفرض علينا تعلمها بعد أن وضع أجدادنا حجر الأساس لكل تلك الأبجديات المختلفة التي نسمعها اليوم.

تباغتنا بلادنا أيضاً مع الموسيقى إذا ما أردنا الخلود للسكينة ليلاً فلابد لنا من الإحساس بالموسيقى السورية التي عبرت الزمان والمكان حتى وصلت للعالم اليوم.

في رحلة البحث عن منفى، تتنقل جثثنا تائهة بين أجزاء الأمكنة المختلفة بينما تصر أرواحنا على البقاء في الوطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.