شعار قسم مدونات

الشدة المستنصرية

The Saladin Citadel is seen surrounded by residential buildings at the center of downtown Cairo, Egypt, November 11, 2016. REUTERS/Mohamed Abd El Ghany

يقول أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن الأمير تغري بردي الظاهري عن الشدة التي ضربت مصر في عهد الخليفة المستنصر الفاطمي بين عامي ٤٥٧ و٤٦٤ هجرية (من أواخر ١٠٦٤ إلى أواخر ١٠٧١ ميلادية)

 

"وجلا عن مصر خلق كثير لما حصل بها من الغلاء الزائد عن الحدّ، والجوع الذي لم يعهد مثله في الدنيا، فإنّه مات أكثر أهل مصر، وأكل بعضهم بعضا. وظهروا على بعض الطبّاخين أنّه ذبح عدّة من الصّبيان والنساء وأكل لحومهم وباعها بعد أن طبخها. وأُكِلَت الدوابّ بأسرها، فلم يبق لصاحب مصر، أعنى المستنصر، سوى ثلاثة أفراس بعد أن كانت عشرة آلاف ما بين فرس وجمل ودابّة. وبيع الكلب بخمسة دنانير، والسّنّور بثلاثة دنانير. ونزل الوزير أبو المكارم وزير المستنصر على باب القصر عن بغلته وليس معه إلّا غلام واحد، فجاء ثلاثة وأخذوا البغلة منه، ولم يقدر الغلام على منعهم لضعفه من الجوع فذبحوها وأكلوها، فأُخِذُوا وَصُلِبُوا، فأصبح الناسُ فلم يَرَوُا إلّا عِظَامَهُم، أَكَل الناسُ في تلك الليلة لحومَهم"

 

لا تظهر الشدة المستنصرية بالتفصيل في كتب المدارس المصرية، بل تكاد الفترة الفاطمية كلها تغيب بعد السطرين اللذين يذكران بناء القائد جوهر الصقلي للقاهرة ودخول المعز لدين الله الفاطمي إليها وإنشاء الأزهر جامعاً وجامعة. ومن بين من يذكرون الشدة المستنصرية، قليلون هم من يذكرون خلفيتها السياسية، فصورتها تظهر في الذاكرة الجمعية لأهل مصر، إن ظهرت، أقرب للكارثة الطبيعية منها للجريمة السياسية.

 

كان الحمدانيون قد فقدوا ملكهم في الشام بعد أن أخذه الفاطميون، إلا أن علاقاتهم بالقبائل العربية في منطقة الجزيرة بقيت جيدة، فاستعان بهم الفاطميون ليكونوا ولاة محليين تحت إمرتهم

والحقيقة أن أكثر المؤرخين لا ينسبونها إلى انخفاض منسوب المياه في النيل فحسب، بل إلى حرب عصابات درات رحاها بين عدد من الأمراء الطامعين في شغل منصب الوزارة الفاطمية. ويضع أكثرهم اللوم الأكبر على الأمير ناصر الدولة الثاني، ذي المجدين، الحسن بن الحسين الحمداني، وعلى الخليفة الفاطمي الذي كان ينصاع لأكثر عسكره بطشاً. وناصر الدولة الثاني، ذو المجدين هذا، هو الحفيد المباشر لناصر الدولة الأول الحسن بن عبد الله بن حمدان، وهو أبرز ملوك الدولة الحمدانية في الموصل، وأخو سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان، أمير حلب، والمشهور بلقبه (سيف الدولة الحمداني) الذي مدحه أبو الطيب المتنبي.

 

كان الحمدانيون قد فقدوا ملكهم في الشام بعد أن أخذه الفاطميون، إلا أن علاقاتهم بالقبائل العربية في منطقة الجزيرة بقيت جيدة، فاستعان بهم الفاطميون ليكونوا ولاة محليين تحت إمرتهم، وكان ناصر الدولة الثاني حفيد الأول، والياً للفاطميين على صور، ثم ضم إليها دمشق.  وكانت ولاية الشام، كما دائماً، من أهم ولايات الخلافة، ويتوقع صاحبها أن يترقى بعدها لينال الوزارة، وهي أعلى منصب بعد الخليفة. إلا أن ذا المجدين هذا تم عزله بدلاً من ترقيته، فعاد إلى مصر وجنَّد البدو من أهل البحيرة وحاصر القاهرة، قاطعاً عنها مدد الطعام من الدلتا والصعيد، وصادف ذلك انخفاض النيل أصلاً فجاع الناس ووقعت الشدة.

 

ولرفع الغلاء عن الناس، اضطر الخليفة إلى تولية ذي المجدين الوزارة، فرفع الحصار عن الناس. إلا أنهم لم يكادوا يتنفسون بعض الشيء، حتى نادى المنادي أن زملاء ذي المجدين قتلوه غدراً، وأن الحرب تدور بينهم على من يستولي على الوزارة، فاضطر المستنصر أن يستدعي والي عكا، الأمير بدر الجمالي، (والذي سمي على اسمه حي الجمالية القائم إلى اليوم) فهزم هؤلاء الأمراء المتصارعين، وأعاد الأمور إلى نصابها. وأخذت هذه الأحداث من أولها إلى آخرها سبع سنوات "كسني يوسف" على حد تعبير الذهبي وابن تغري بردي.

 

الغريب في هذه القصة، ليس انخفاض النيل، ولا أن الأمر وصل بالناس إلى أكل بعضهم لحوم بعض، فالمجاعات المؤدية إلى أكل لحوم البشر ترد أكثر من مرة في تواريخ الأمم في العصور الوسطى، وقد روى مؤرخو الحملة الصليبية الأولى التي جرت بعد هذه الشدة بعقدين وبضع سنوات عن جرائم أكل لحوم بشر قامت بها القوات الصليبية في شمال الشام أثناء حصار أنطاكية. أقول كان زمناً صعباً يأكل الأخ فيه أخاه حقاً لا مجازاً، فليس أمر الشدة بالغريب عنه. ولكن الغريب حقاً، حتى بمقاييس تلك العصور، هو سكون الناس في مصر عما جرى لهم. وأن المستنصر الفاطمي أكمل مدة حكمه ولم يخلعه أحد، بل أن نظام الحكم القائم على صراع الأمراء، وتولية من يقتل أنداده منهم وزيراً، استمر مائة سنة أخرى حتى نهاية عهد الدولة الفاطمية في مصر. وسيمتلئ تاريخ مصر في الألف سنة التالية لهذه الشدة، بشدائد أخرى، يختلف الأمراء، فتغلو الأسعار، ويدفع الفقراء، لا الأمراء، الثمن.

 

أكتب هذا متمنيا أن يكون مرور ألف عام قد غير شيئاً في طبائعنا، لأن شدة مستنصرية جديدة، تهب رياحها، لا على مصر وحدها بل على الأمة بأسرها، وحكامنا معاتيه، يصدقون أن الجن ستعجب من أفعالهم، وأنهم موعودون بالعظمة والجلال، يظن واحدهم نفسه صلاح الدين وهو كافور، يجبنون أمام الغزاة ويتجبرون على كل أعزل، حتى على الأطفال والنساء. وأكتب هذا الكلام أيضاً تذكيراً لمن يحب أن يتذكر، بأن طول صبر الناس على حكامهم، وعلى حكام حكامهم من الغزاة والمستعمرين، القدامى والجدد، قد يوقعهم في بلاء أسطوري الأبعاد، وأن الناس الذي يسمحون لحاكمهم أن يأكلهم لكي لا يأكل بعضهم بعضاً، عادة ما ينتهي بهم الأمر وقد ابتلوا بالشرين معاً، يأكلهم الحاكم، ثم يأكل بعضهم بعضاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.