شعار قسم مدونات

إلى الأشياء.. التي أحبُّها!

blogs-أحب
هناك فاصلٌ صغير، بينَ العالَمِ الطبيعيّ، وتلكَ الحالة السرمديّة، التي تُغافلُنا في أوقات نادرة. نشعرُ أثناءَها وبعدَها، أنَّ كلَّ شيءٍ بخير، ونحنُ سعداء، لأنّنا نفيضُ بالمحبّة. هنا، وقبلَ البدْء أتمنّى أن تغوصَ في هذا الفاصل. لا أريدُكَ أن تعبُرَ أيَّ الحالتَيْن، فقط كُنْ في المنتصف. تجرَّدْ من التفكير، أغمضْ كلَّ حواسِّك. وأجِبْ عن السؤال الذي طُرِحَ عليّ.

منذ مدّة، سألني رفيقٌ في حوارٍ بيننا: ماذا تحبُّ ؟ فوقفتُ كثيرًا أرمقُ السؤال، بانتظار أن يُعبِّرَ عن نفسه. حينَها خالَطتِ السؤالَ، الكثيرُ من الأسئلة في ذهني: لماذا أحبُّ؟ كيف أحبُّ؟ وما هو الحبّ أصلًا؟ شرحتُ له بعدَها، الصورةَ النمطيّة لهذه الكلمة عند الإنسانِ المعاصر. وبدأتُ تشريحَ قلبي! ثمَّ عجبتُ أنَّ هناكَ الكثير من الأشياء التي أحبُّها، فقررتُ أن أصنعَ لها رسالة. حتّى أنّني أرسلتُ هذه الرسالة كمعايَدة لهذه الأشياء، إذْ وافقَتْ كتابتُها عيدًا.

إلى الورد، الذي أحبُّه كثيرًا، رغمَ أنَّه يذبُل. لكنْ ما قيمة الشيء إن لمْ يذبُل! ألَمْ يخلُقِ اللهُ الأرضَ تذبُل، فيُنعمُ عليها. ألا تذبُل الأنفس، فيكون سِقاؤُها رحمةً من الله، الذي لا ينسى خلقَه!

مرحبًا.. إلى الأشياء.. التي أحبُّها:
إلى الآلام التي يُكتبُ عنها، إلى أسمى ما خُطَّ، وُيخطُّ، إلى الأوطان. إلى الذين يشتركون في كونِهم خلفاءَ الله في أرضِه، إلى الإنسان. إلى الذين يحملونَ الترابَ بينَ أضلُعهم، حتّى لا ينسَوْا في يومٍ، أنّهم خلفاءُ الأرض، وأنَّ اللهَ لا يحبُّ المفسدين. إلى الصباح، الذي أحبُّه، كثيرًا. إلى قطعِ القلب القليلة، الأصدقاء. إلَيْهم، إلى أكتافِهم، التي نستندُ إليها. إلى أسمائِهم، التي تُذوبُ في أفواهِنا. إلى ابتساماتِهم التي تُذيبُ أحزانَنا. إلى قلوبهمُ النّضِرة، البهيّة، كعيونِهم حينما تتلاقى الأبصار، غيرَ بعيدٍ من تلاقي البصائِر. إلى نقاءِ صفائِهم العذْب، إلَيْهم.

إلى كُتبي. إلى أشيائيَ الصغيرة، التي لا يعرفُ الناسُ قصَصَها، ويلومونَني على احتفاظي بها. منها الشريطةُ الزرقاء. الكلمات القليلة على البطاقة، التي ألْجَأُ إلى قراءَتِها دائمًا. منها الوردة الحمراء. التي ما زالت بلونِها ذاتِه في ذاكرَتي، والبطاقة المرافقة، التي تُنزِلُ على قلبي سكينةً أحبُّها. ومنها بعضُ الرسائل. منها كذلك حبّي للحلوىْ، وحبّي للرقم خمسةَ عشر. منها كوبُ قهْوة. كانَ هديّةً لا يذكُرُها أحدٌ سِواي، كانتْ ألذَّ قهوةٍ ذُقتُها، ما زلتُ أذكر ارتساماتِ وجهي على لمعان أنوار الأرصفة وقتَها. إلى أقلامي، التي لمْ تخذِلْني أبدًا. إلى أوراقي، إلى خطّيَ السيّء. إلى كلّ الجمادات التي لا تدري أنّها جميلة، لأنْ لا مرايا في عوالِمِها. إلى السماء، نعم، إلى السماء، التي تعلِّمُنا دائمًا أنَّ السكونَ أبلَغُ من كلّ اللغات، وأنَّ اللغات خائِنة، لا تفي حينَما تحملُ على عاتِقها كتابةَ المشاعر. فيكونُ الصمتُ أوفى الحديث، وأجزلَ الكلام، وأسمى الوصف.

إلى أمّي قبلَ ذلك وبعده، وفي كلّ شيء. ومن كلّ شيء، وعندَ كلّ شيء. وأذكُرُ أمّي في منتصَفِ الحديث، حتّى يحتضِنَها كلُّ كلامي، ولا يشبعَ من ذلك، لأنَّ الكلام من أسمى ما أُقدِّم، ولأنّني أُقدِّرُ الكلام، وأحبُّه، ولأنَّ الله سبحانَه وتعالى يقول "لن تنالوا البرَّ حتّى تُنْفقوا ممّا تحبُّون". إلى الكلام، إلى قُدْرَتي على الكتابة، التي أمنحُ منها وأنفقُ، على قدْرِ ما أحبُّ أن يرضى ربّي عنّي. إلى العلم، الذي لا يُشبعُ منه. إلى الطرقات، لأنّني أحبُّ السيرَ فيها. أحبُّ سكَناتِها، حركاتِها، وقصَصِها التي تحفرُ نفسها على جدرانِها المحيطة. إلى كلِّ جداريَّةٍ، لم يجدْ كاتبُها مكانًا أعزَّ عليه من المكان الذي يجمعُ كلّ النّاس على اختلافاتهم، حتّى يبوحَ لهم بجملةٍ سَعِدَ فوقَ ما يظنُّ كثيرون، لأنَّه استطاع اختزال إحساسِه كُلِّه بها.

الحبّ، يعني أن تصنعَ شيئًا آخر بالأشياء، شيئًا يخصُّك. شيئًا يُثيرُ دهشَتَك. هذا ردُّ الفعلِ الإنسانيّ العجيب. فهمتُ حينَها، كيف ينظرُ الطفلُ بكلّ دهشةٍ نحوَ لُعبةٍ ما، فيُحبَّها

إلى الورد، الذي أحبُّه كثيرًا، رغمَ أنَّه يذبُل. لكنْ ما قيمة الشيء إن لمْ يذبُل! ألَمْ يخلُقِ اللهُ الأرضَ تذبُل، فيُنعمُ عليها. ألا تذبُل الأنفس، فيكون سِقاؤُها رحمةً من الله، الذي لا ينسى خلقَه! إلى كلّ الورد في العالم، الذي سيذبُل يومًا ما، كي ينغرسَ في قلوبِ الأحبّة الذين تهادَوْه. إلى المطر. إلى القمر. إلى الغيم. يا الله. إلى ما تُخفي الصدور، وما يفتكُ بكلّ كَسير. إلى المحبّة، التي لا تتجاوزُ عتباتِ الألْسُن، مخبّأةً هناك، في أقاصي ظُلُمات القلوب. ألَمْ يبعثِ الله النُّور في الكوْن! لا يُعجزُه سبحانَه أنْ يبعثَ نورًا في قلبٍ من قلوبِ خلقِه. إلى الجمال، الذي هو أكثرُ ما يُحسنُ إلى هذا العالم. وأخيرًا: إلى قلبي، الذي يحترمُني، مهما قُلت.

أعتذرُ إلى كلِّ الأشياءِ التي أحبُّها ولم أخبِرْها بذلكَ في يوم، والأشياء التي لمْ يُسعفْني قلمي للكتابة عنها. حتّى لا تنضبَ الذاكرة، وينضبَ الحبّ. هي هكذا دائمًا، قلوبنا تفاجئُنا بحبِّ أشياء جديدة، حتّى لا يموت هذا الجمالُ الذي زرعه الله في قلوبِ البشر.

بعدما فرُغْت، شعرتُ بأنّني قضيتُ دَيْنًا. وسألتُ نفسي: هل إذا قرأتُ هذه الرسالةَ لاحقًا، سأحبُّ هذه الأشياء، بقدْرِ ما أفعلُ اليوم؟ عندَها، تذكّرتُ صديقًا كانَ يقولُ لي دائمًا: أنتَ تُعطي الأشياء قيمةً كبيرة، تراها أشياءَ أخرى. وأطلَّت ابتسامةٌ سريعة. كنتُ سعيدًا لأنّني لم أفكّر أبدًا وأنا أكتب. ولنْ أندمَ على ذلك. أحبُّ لحظيّة المشاعر، وإن كانتْ تجاه الأشياء!

آمنتُ بعدها، أنَّ الحبّ، يعني أن تصنعَ شيئًا آخر بالأشياء، شيئًا يخصُّك. شيئًا يُثيرُ دهشَتَك. الدهشة! نعم، الدهشة. هذا ردُّ الفعلِ الإنسانيّ العجيب. فهمتُ حينَها، كيف ينظرُ الطفلُ بكلّ دهشةٍ نحوَ لُعبةٍ ما، فيُحبَّها. لا أدري، ربما كانَ الحبّ أن نرى كأنّنا أطفالٌ، ولا نفقدَ الدهشة.

يا الله لو كنتُ قطعةَ غيمٍ.. لكانَ قلبي السّماء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.