شعار قسم مدونات

فوائد الشر

blogs - trump

رغم أن انتخاب دونالد ترمب ليكون الإمبراطور الجديد كارثي بكل المقاييس، إلا أنه له عدة أوجه طيبة لا بد من تعدادها:

أولاً، كما ذكرنا في المدونة السابقة، إن من فضائل الشر أنه يعلمك أن تقاومه، وإن انتخاب هذا الرجل سيوحد عمل المنظمات اليسارية الأمريكية في جبهة واحدة. وهذا اليسار الأمريكي، لدهشة القارئ العربي، موجود، بل ومؤثر في الجامعات والأحياء الفقيرة في المدن الكبرى. إن هزيمة الحزب الديمقراطي، أو التيارات اليمينية فيه، ستلجئه لا محالة إلى قواعده الأفقر والأكثر راديكالية، وسيحتاج إلى هذه المنظمات الراديكالية، فسيضطر لتعديل خطابه من جهة، وإلى دعم هذه المنظمات من جهة أخرى.

 

إن هذا كفيل بإدخال خطاب ثوري، هو حتى الآن، مهمش، وأناس مهمشين مؤمنين به، ساحة السياسية الأمريكية الرسمية. فالمحامون الذين يقيمون في أحياء نيويورك الأقل لمعاناً من منهاتن، وذوو الأصول الإفريقية والهندية والعربية العاملون في الأحياء الفقيرة من شيكاغو وغيرها والذين كانوا يعتبرون مجانين في راديكاليتهم من قبل، قد يصبحون حجر الزاوية في المقاومة الأمريكية لترمب وما ينويه.

 

وإن مواقف هؤلاء أفضل للعرب من كل الساسة الأمريكيين ديمقراطيهم وجمهوريهم، وإنك إذ تراهم وتسمعهم يتكلمون عن حل الدولة الواحدة في فلسطين، حيث تفقد إسرائيل صفتها كدولة يهودية، فيتغير علمها ونشيدها، بل واسمها، ويعود كل اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، أي إلى حيفا ويافا وعكا، ويصبحون الأغلبية المطلقة ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط، تجد أنهم أكثر عروبة من كل الحكام العرب القابلين بحل الدولتين. وهؤلاء الراديكاليون اليساريون كانوا ضد الحروب الأمريكية في منطقتنا، ضد تدخلها في العراق، وفي سوريا وفي ليبيا وغيرها. وهم ضد النظام الرأسمالي نفسه من أساسه، وينادون باشتراكية اجتماعية أقرب لما هو سائد في أوروبا الشمالية.

 

الأمر الجيد الذي قد يسببه انتخاب دونالد ترمب، هو أنه يدفع السنة والشيعة في بلادنا إلى نوع من التقارب، إذ أنه يعد بالويل والثبور وعظائم الأمور لكلا الطائفتين

إن غضب الناس كان من باراك أوباما، كغضبهم من الإخوان المسلمين في مصر، لا لأنهم ضد أصل الفكرة التي وعدهم بتحقيقها، ولكن لأنه فشل في الوفاء بوعده. فحين حكم الإخوان في مصر، قالوا إنهم ثوار، ولكنهم أبقوا على كل التحالفات غير الثورية، فلا رضي عنهم الفلول ولا رضي عنهم الثوار. كذلك، فإن انتخاب أوباما كان يبشر باشتراكية اجتماعية في أمريكا، فلما لم يكن الديمقراطيون قادرين على ذلك، رغم أنهم حكموا ثماني سنين، خاب أمل الناس فيهم، فعاد الاشتراكيون إلى اشتراكيتهم، والذين في قلوبهم مرض، ارتدوا إلى حالة فاشية أنتجت دونالد ترمب الذي ترون. ولذلك، وكما أن حكم الفلول في مصر، سيجعل كل المعارضة، إسلاميها وعلمانيها، أكثر راديكالية عاجلاً أم آجلاً، ربما يؤدي تشدد ترمب، للمرة الأولى ربما، إلى خلق يسار أمريكي قوي معتد به.

 

الأمر الثاني، الجيد الذي قد يسببه انتخاب دونالد ترمب، هو أنه يدفع السنة والشيعة في بلادنا إلى نوع من التقارب، إذ أنه يعد بالويل والثبور وعظائم الأمور لكلا الطائفتين. وقد وقع الكثيرون من أنصار الحكومة السورية في الغلط الشنيع حين أيدوه، إن عينهم كانت على أنه لن يقصف سوريا، ولكنهم كانوا يغضون البصر عن أنه قد يقصف إيران أو يدع إسرائيل تقصفها. هو من ناحية يريد القضاء على التنظيمات الإسلامية المشتددة في سوريا والعراق، ولكنه لا يفرق بين السنة والشيعة، ويرى إيران دولة متطرفة، وحلفاءها الإسلاميين تنظيمات متطرفة أيضاً، وعلاقته جيدة ببنيامين نتنياهو، وسيعيره أذنه فيما يجب عليه أن يفعله في الشرق الأوسط.  ثم هو يريد أن يلغي اتفاقية السلاح النووي بين إيران والعالم ومنه الولايات المتحدة. فإن شعر السنة والشيعة أنهم في خطر معاً، فربما أوقف ذلك تذابحهم المستمر منذ خمس سنوات.

 

الأمر الثالث، الجيد في انتخابه، أنه بين مرة أخرى أن الساسة المعتمدين تماماً على تمويل الشركات الكبرى في أمريكا ليسوا شيئا في عيون الناس. وهو يبرز أزمة الليبرالية الغربية إلى الحد الأقصى. ألم تكن الديمقراطية مصممة تحديداً لكي لا يصل مثله إلى السلطة؟

نعم إن أسفل حكامنا وأكثرهم انحطاطاً يريدون أن يقولوا للناس: "انظروا، حتى في أمريكا، في بلاد الديمقراطية كما تزعمون، ينتخبون أناساً مثل هذا، فاحمدوا ربكم على إنعامه بنا عليكم". سيقولون ذلك، إلا أن ذلك لن يجعلهم أكثر محبوبية عندنا، بل سيزيد من فزع الأمريكيين والأوروبيين من أن يصبح حكامهم كحكامنا، وسيراجعون أسس العملية التي يسمونها ديمقراطية، ويتحكم فيها رأس المال بهما يهدد جوهرها.

 قضي الأمر، أصبح جلياً، إن الليبرالية الديمقراطية تواجه أزمة وجودية، كتلك التي واجهتها روما مع فكرة الحكم الوراثي حين أدى ذلك إلى تولية نيرون أمبراطوراً، وإن العالم مقبل على فترة صعبة، لكنها، بسبب صعوبتها تحديداً، ستخلق بدائلها التي ستنتصر عليها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.