شعار قسم مدونات

هل هذا شعب عظيم؟

blogs - peo
طبيعي أن يطرب الإنسان إذا وُصف بأنه "عظيم"، إذ لا يُـكلّلُ بهذا الوصف -عادة- أحدٌ إلا بعد جهد مُضْنٍ، وعِراك شاق مع أسباب النجاح، فهو جائزة تظهر على ألسنة الناس الذين شهدوا بتفوّقه وإنجازه، حين ثابر فنجح، أو ابتُلي فصبر، أو بادَر فكان صاحبَ السبق، أو فكّـر فاخترع، أو استثمر موهبته فأبدع، ويحق لمثله بعد ذلك أن يُنعت بالعظمة، لأنه صنع مجده بنفسه، ونقش في صخرة الحياة الرتيبة آثارَ إبداعه.

وكما أن كلّ غالٍ ونفيس معرّض للتزوير، فإن "العظمةَ" مفهومٌ كثيرًا ما يعتريه الخلط، والإطلاق في غير موضعه، فيوصف بالعظمة غير العظيم، ويحرم منه صاحبُه المستحق. ونقف هنا على عبارة "الشعب العظيم" التي تتردّد على ألسنة الزعماء، ورؤساء الأحزاب السياسية والإعلاميين، لننظر متى يصلح إطلاق وصف "العظيم" على شعب من الشعوب؟

يركن الشعب المسكين مطمئنّا إلى الوصف الجميل، ليعيش متبلّد الإحساس في دائرة مغلقة، من الجهل والأمية، والظلم والاستبداد.

لن نختلف كثيرا إذا كان الوصف متعلّقا بالإنتاجية التي يتمتّع بها هذا الشعب، أو بارتفاع نسبة الموهوبين فيه، أو انضباطه بالقانون، أو تعايش أبنائه بالأخلاقُ والفضيلة، أو التزامهم بأعراف سليمة تدعم الحياة الاجتماعية المستقرة، أو ازدهار العادات الراقية كالقراءة والرياضة، أو غير ذلك مما تكاد تتفق عليه الإنسانية من لوازم صفة "العظمة".

لكنّ الخلاف قد يطرأ عنيفا حين نتساءل: هل يوصف شعب بأنه "عظيم" إذا كان سليل حضارة عريقة عمرها آلاف السنين، مهما كان واقعه الحالي؟ وهل يستحق وصف العظمة، لمجرّد أنّـه –رغم قسوة المآسي وأسباب الضنك والفقر- ما زال على قيد الحياة؟ أو أنّـه -رغم وطأة الظلم والطغيان- ما زال راضخا؟ وهنا تتصارع الأوصاف على ألسنة الواصفين، فيأتي وصف "العظمة" الجميل ليواري سوءة هذا الشعب المفضوح، وتتجلّـى –في مقابل ذلك- أوصاف أخرى صادمة وصريحة، ينكرها العقل الطفولي الذي يحب أن يسمع ما يخدّره ويسعده، وإن كان كذبا.

وإليكم هذه الصورة المتكرّرة: يبرز زعيم من الزعماء، ليقول "أيها الشعب العظيم"، فيأتي وصف العظمة في مطلع خطابه رغم تفشّي الجهل والأميّة، وشيوع الفساد والرشوة، وانهيار واضح في الأخلاق والمروءات، وانتشار فاضح للأمراض الاجتماعية في أسوأ أشكالها، فتكون كلمات الزعيم مخدّرة لأعصاب شعب له طاقات عظيمة، وإمكانيات جبّارة، فيركن الشعب المسكين مطمئنّا إلى الوصف الجميل، ليعيش متبلّد الإحساس في دائرة مغلقة، من الجهل والأمية، والظلم والاستبداد، والسلبية والعجز، وفوق كل ذلك: عجز عن مصارحة النفس بكل ذلك.

 وبالمقابل سؤال وجيه يقول: كيف يمكن أن تستنهض همّـة شعب لينفض عن نفسه غبار الكسل، وينشط في مجاهدة عقبات الحياة، ويزْوِي أسباب تقصيره، إلا بأن تصفه بالوصف الذي ترجوه له، ليهبّ من رقدتِهِ ساعيا وراء أسباب مجده وعزّه، ليكون بعد ذلك مستحقا لوصف العظمة؟ فيكون وصفه بـ "العظيم" باعتبار ما سيكون.

ويبدو أن الأمر يتعلّق بالواصف، فإذا كان الفاسد –أيّـا كان موقعه- هو الذي يصف الشعب بأنه "عظيم" فلا يمكن أن يفسّر ذلك إلا بأنه تخدير ومداعبة لمشاعر الناس لتحقيق مأرب ما، وإذا كان الواصف ناصحا أمينا، ومصلِحا مجتهدا، فالمرجوّ أن يكون وصفه لاستنهاض الهمة، واستثارة العزيمة. وتبقى وظيفة الشعب الذي يرجو أن يكون عظيما، أن يميّز بين الواصف الناصح، والواصف الطالح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.