شعار قسم مدونات

الحياة البشرية بين الواقع والافتراضية

blogs - social media
العالم يتحرك في سكون! هل رأيت أحدا يتكلم وهو صامت؟ لا يحرك حتى شفاه، وهل رأيت من يصول ويجول وجسمه في سكون؟ إنه يتحادث مع أناس لا يعرفهم وربما ألفهم وهو يجهلهم، بل لا يتخيل شكلهم.
إنني أتحدث عن تكنولوجيا فرضت نفسها واستطاعت أن تغير وجه البسيطة ونمط حياة الخليقة فارتقت بالبشرية من عالم الواقعية إلى عالم الافتراضية، إن الإحصائيات تشير إلى وجود أكثر من مليار ونصف المليار مستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي الافتراضي التي كان ولا يزال رائدها الفيسبوك، حيث أصبح الفرد منا يقضي الأوقات والساعات الطوال أمام الشاشة المفتوحة، فتجد أصابع اليدين قد ارتبطت بلوحة المفاتيح ارتباطا وثيقا فصارت تداعبها لترسم بذلك لوحة مقروءة لا مسموعة تأسر قلوب المتخاطبين ورواد المسرح الفيسبوكي.

السوق الأزرق المفتوح لم يدرج في دفتر شروطه أوقات الافتتاح وأوقات الاختتام، بل ينتعش وتزداد ذروته في الليل.

لا شك أن المسرح الفيسبوكي قد اختار من الألوان لحلته وكسوته اللون الأزرق، أما الجمهور فكله وعلى منهاج واحد والطابور نفسه؛ اقتطعوا تأشيرة الدخول للفضاء الأزرق من شبابيك الياهو Yahoo والجمايل G-mail، اللذين احتكرا الخدمة لزمن غير قصير قبل أن تتعدد الشبابيك وتعوض عنها أرقام الهواتف المحمولة التي دخلت هي أيضا في عرض الخدمة ليصبح بذلك مسرحا فيسبوكيا متنقلا يتيح لمحبيه الدخول وقتما أرادوا وأينما شاءوا.

إنه مسرح يختزل حياة التعارف والتنقل والتجول بنقرات أزرار معدودة يكون فيها الفرد جالسا على كرسيه أو حتى مستلقيا على سريره، بينما تجسدت وارتسمت الحياة الافتراضية في شاشة صغيرة يغطيها كف اليد، في حين يقلب أصبع السبابة أو الإبهام صفحاتها راسمة بذلك صورة تشبه إلى حد ما سفينة في عرض البحار تحركها الأشرعة والمجاديف تسارع حركاتها بحثا عن اكتشاف العوالم والحياة في جهات أخرى من هذه المعمورة.

إن حياة الاختزال هذه تتمتع بحركة تسارع كبيرة جدا، فهي تتيح لكل مستخدم التنقل بصورة كبيرة وبسرعة في التواصل وآنية في التواجد، فهذا صديق تكلمه من فلسطين وآخر تحاكيه من الصين، وبينهما زمن لا يتعدى طرفة عين.

وإلى عهد قريب وعن حاضر اليوم ليس ببعيد، كانت المجتمعات وعلى تتابع العصور والأزمنة تعيش حياتها وفق نمط القبائل والجماعات، انتظمت أحيانا بالفطرة وأحيانا أخرى بالقانون والقوة، فاشتركت عصور الحياة في الرحلات التجارية وأنظمة الأسواق، أين يكون البيع والشراء والتعارف والتبادل واقع يعيشه بنو البشر، لكن شيئا فشيئا تغيرت العادات وتبدلت الأنظمة، أنعمة هي أم نقمة تلك التكنولوجيا التي ألقت بظلالها وتغلغلت بجذورها في كل صغيرة وكبيرة من الحياة اليومية للإنسان.

فلقد أصبح الفضاء الأزرق سوقا مفتوحا لا يغلق أبوابه نهائيا عكس الأسواق الاعتيادية التي ألفها البشر، أين يقضي الناس حوائجهم ويتبادلون مختلف السلع والمواد، بل وحتى الأحاديث وأخبار الأمم والقبائل وينتظرون قدوم القوافل، ولم تترك العرب حظها في أسواق الشعر والكلام، أين كان عكاظ يزدحم بفحول الشعراء جاءوا من كل مكان وقدموا من عديد الجهات، اختلفت مشاربهم وتباينت أصولهم، فهذا شاعر يتغزل بمحبوبه، وذاك يهجو صاحبه، والآخر يمدح سيده، لا شك أن كل هذه الحركة والنشاط تحدث في آية النهار التي جعلها الله معاشا، أما السوق الأزرق المفتوح فإنني أعتقد أنه لم يدرج في دفتر شروطه أوقات الافتتاح وأوقات الاختتام، بل أرى أنه ينتعش وتزداد ذروته في الليل.

لقد استطاع الفضاء الأزرق أن يجمع ملايير البشر حول مسرحه ويجلبهم إلى عروض مسرحياته المختلفة ويسري في حياتهم اليومية كما يسري الدم في عروق بني آدم.

أرى في المسرح الفيسبوكي صورا عديدة… أفراد، مجموعات وصفحات، الأمر الذي جعلني أعتقد أنه أصبح لاستعمال الفضاء الأزرق لدى كثير من البشر جزء من الحياة اليومية، فجلوس الناس مع بعضهم البعض، واجتماع أفراد العائلة صارت مجرد لقاءات خالية من أية عواطف اجتماعية وروابط إنسانية، نعم فقد أصبح الفرد منا لا يجلس مع أهله ولا يحاكيهم ولا يسأل عن شؤونهم ولا يتفقد أحوالهم، فتجد أحدهم يجلس في الغرفة يستعمل جهاز الكمبيوتر، والآخر بجنبه يحمل هاتفه لا يكاد يفارق أصابع يده، بينما يتناول طعامه أو يحتسي مشروبه، فتراه حينا يبتسم وحينا آخر يتأفف من بطء الشبكة وسوء الخدمة.

اذهب حيث شئت فالكل داخل المسرح يستمتع بالتعليقات ويشارك المنشورات، في مواقف الحافلات والتجمعات العامة، الكل مطأطئ الرأس، أما داخل المترو كما في الحافلة فلا تسمع إلا أصوات تطلقها الهواتف المحمولة تترجم الحياة الافتراضية التي يعيشها رواد المسرح من ضجيج وهمسات وضحكات وهم يتابعون عرضا مسرحيا جميلا، فالكل جالس لا يخاطب أحدا، بل لا ينظر إلى من جلس بجنبه حتى.

لقد استطاع الفضاء الأزرق أن يجمع ملايير البشر حول مسرحه ويجلبهم إلى عروض مسرحياته المختلفة ويسري في حياتهم اليومية كما يسري الدم في عروق بني آدم، ويلغي بتقنياته الحديثة المتطورة وأساليب عروضه وخدماته الاجتماعية والنفسية كل الحدود، بعد أن وجد التأشيرة وأسكن رواد مسرحه ومحبي شعاره عالما افتراضيا قدم لهم فيه صنوف الرغبات وأشكال الخدمات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.