شعار قسم مدونات

دروس من العصيان المدني السوداني

Supporters carry images of Sudan's President Omar al-Bashir and flags during a rally against the International Criminal Court (ICC), at Khartoum Airport in Sudan, July 30, 2016. REUTERS/Mohamed Nureldin Abdallah
(1)
على الرغم من إدراك الكثيرين منّا للتحوُّل الهائل الذي أحدثته وسائط التواصل الاجتماعي، إلا أن الإمكانات الكامنة داخل هذا التحوُّل، قد تفوق قُدرتنا الحالية على التحليل والتنبؤ. وهذا ما يجب علينا الاعتراف به، دون أن يعني -بالطبع- أن نكف عن محاولة فهم ما يجري، أو أن نتوقف عن الفعل.

خارطة الفكر والقوة في مجتمعاتنا قد تغيّرت بشكل درامي، فقد امتلك الجميع حق الكتابة والكلام، بعد أن كان هذا الحق محتكراً على السُلطات الاجتماعية الرسمية، مثل الإعلام الرسمي، المعارضة، المثقفين الرسميين وهُنا لا أعني مثقفي النظام وإنما المثقفين المعترف بهم في الوضع القديم، رجال الدين، الكُتّاب والإعلاميين، النجوم.

ما يزال الوقتُ باكراً للحُكم على ما فعله هذا العصيان، ولا ما يُمكن أن يقود إليه. ولكن الجميع يدركون أنه عتبة فاصلة في مسيرة نضال الشعب السوداني.

لقد قامت وسائط التواصل الاجتماعي بما يشبه إعادة هيكلة لمجال الفكر والقوة الذي كان واقعاً تحت هيمنة "الثقافة الرسمية"، وأعادت توزيع القوة من جديد، الفئات المذكورة آنفاً أخذت مواقعها في المجال التواصلي الجديد، ولكن هذه المرة وفق شروط جديدة، شروط أكثر ديمقراطية، وأكثر مساواةً.

لكي تعبَّر عن رأيك، لم تعُد بحاجة إلى قناة أو صحيفة أو منبر. تستطيع أن تنقُد ما تشاء ومن تشاء، فقط عليك أن تتذكر أن أفكارك وآراءك واقعة هي كذلك في متناول حُرية الآخرين ونقدهم، وإذا كُنت من "السُلطات الاجتماعية القديمة" فأنت الآن، وجهاً لوجه أمام الجمهور بكل فئاته، بل يزاحمك كثيرون.

هالات كثيرة اختفت، الجميع يأخذون حجمهم الحقيقي، على الأقل بالمعنى الديمقراطي لكلمة "حقيقي". فبغض النظر عمّا تفترضه فيما تقول وتطرح من قيمة، بل بغض النظر عن القيمة الحقيقة لما تطرحه من آراء وأفكار، فإن "الديمقراطية" تكون لها الكلمة الأعلى دائماً.

مع كُل هذا، أقول إن الإمكانات الكامنة لهذا الوضع الجديد قد تظل بعيدة عن الإدراك، فنحنُ لا نعرف ديناميكيات هذا المجال الجديد للقوة الذي قامت بتشكيله وسائط التواصل المختلفة، حتى ولو بشكل تغريبي، ببساطة لأننا جميعا –شئنا أم أبينا- جزءٌ منه يفعل فينا ويحرِّكنا مع الآخرين، ولكنه يفعل بواسطتنا أيضاً، أي أن ما نعتقد أننا نقوم به هو فعل المجال خلالنا. وقد يصعُب على البعض قبول هذا الوضع الجديد، أعني أولئك الذين يُريدون أن يشعروا بالسيطرة ولو فهماً على الأقل، على مجريات الأُمور، لا يريدون أن يشعروا بأنهم جزء من كُل، جزء مما يُمكن تسميته حركة الشعب، والتي لا يحيط بها أحد علماً، فضلاً عن السيطرة.

من الذي يستطيع أن يُنكر أن العصيان المدني السوداني، قد بدأ وتشكَّل مثلما تتشكّل كل الأعاصير، أي هو ليس نتاجاً لتخطيط منظَّم ومرتب بقدر ما هو نتاج لديناميات لا يُمكن الإمساك بها ولا التنبؤ بمسارها، وقد انخرط كثيرون فيه في النهاية لأنه كان قوياً، وليس لأنه مقنع أو مُجدي وفقاً لتصورهم لما هو مجدي.

ما يزال الوقتُ باكراً للحُكم على ما فعله هذا العصيان، ولا ما يُمكن أن يقود إليه. ولكن الجميع يدركون أنه عتبة فاصلة في مسيرة نضال الشعب السوداني ضد النظام السوداني الفاشل والفاسد والمستبد. حتى النظام يدرك ذلك، ومثلما جعلت هبة سبتمبر في العالم 2013 النظام يستشعر الخطر الحقيقي ويدعو للحوار الوطني، فإن هذه الهبة التي بدأت الآن ربما تكون الفرصة الأخيرة، خصوصاً وان النظام قد استنفد جميع الفرص، وكان الحوار الوطني آخرها، وهذا ما يجعل خيار ذهاب النظام هو الخيار الأكثر رجحاناً، والأيام بيننا.

إن الوعي بأن معارفنا وخبراتنا السابقة قد لا تسعفنا لفهم ما يجري، هو معرفة إيجابية تساعدنا على التكيُّف مع الواقع الجديد. وذلك ليس من باب التواضُع وإنما من باب الوعي الحقيقي.

(2)
في نفس السياق، أنتهز هذه المناسبة لأعيد كلاماً كنت قلته في مفهوم "التواضُع". نحن نعلم أن كلمة مثل "تواضُع" لا يجدي أن نبحث عن معناها في القواميس لنعرف ما يعنيه الناس حين يستخدمونها. ولكن إذا افترض الإنسان أنه يتواضع بمعنى أنه ينزل من مقامه الرفيع ليكون مع عامة الناس على سبيل المثال، فإن هذا الافتراض بحد ذاته ينطوي على نوع من التقييم للذات وللآخرين. الأسوأ من ذلك أن يكون "التواضع" هو مجرد وسيلة لكسب المزيد من الترفُّع. أعتقد أن هذه الكلمة مثال جيّد للورطة التي يُمكن أن تضعنا فيها اللّغة، حيث تفرض علينا استخدام كلمات موجودة لا نعرف أصلها، ونجد أنفسنا مُجبرين على تأويلها باستمرار، لتجنُّب المعنى اللُّغوي أو لتجنُّب دلالات فرضها الاستخدام في سياق ما.

بكُل تأكيد هُناك اختلاف وتبايُن بين البشر لا يُمكن إنكاره، ولكن المشكلة تكمُن في "التقييم". فهذه أخطر قُدرة يملكها الإنسان، كما لاحظ "نيتشه" ذلك وعبّر عنه بطُرق مختلفة. وقد يكون من غير المريح أن يأتي ذكر اسم "نيتشه" بالذات في هذا المقام، ولكن ماذا نفعل إن كُنا مدينين له ببعض الأدوات.

إن الاختلافات بين البشر هي واقعٌ أُفقي، ولكن "التقييم" -تلك الأداة الأكثر خطورة في يد الإنسان- يأتي ويضع هذه الاختلافات في ترتيب رأسي، ترتيب معياري. يقول هذا أفضل من هذا، هذا أكثر قيمة وهذا أقل. القيمة هي شيءٌ سحريٌّ يضفيه الناس على الأشياء، ومن هُنا تأتي جميع أنواع المراتب. وإن مفهوم التواضُع ينطوي على نوع من التراتُبية الرأسية المعيارية، على الأقل في أكثر استخداماته شيوعاً.

نعم، علينا الاعتراف أيضاً أننا نمارس عملية التقييم باستمرار مثلما نتنفس، نمارسها على المستوى الفردي كما على المستوى الجماعي، لأن هذه هي طبيعة البشر التي لا يد لهم يد فيها، والإنسان هو مصدر وأداة ومعيار وموضوع هذه العملية، والإرادة وحدها هي التي يُمكنها أن تحسم صراع التقييم، فالذي ينتصر ويسود يفرض تقييمه وقيمه.

ونحن حين نقول على المثقف أو السياسي أو القائد، ألا يعتقد أنه "يتواضع" حين يكون أكثر واقعيةً، فنحنُ أيضاً لا نقول الحقيقة وإنما نمارس نوعاً من الإرادة. ولكن المهم هو أن نملك الوعي بأننا نمارس ذلك، وكثيراً ما يكون الوعي بالشيء هو أقصى درجات الحرية الممكنة إزاء هذا الشيء. وكما قال أحدهم لا أذكر من هو "الحرية هي الوعي بالضرورة".

ولنفس السبب، نحن نكون أكثر حرية عندما ندرك أننا جزء من صيرورة أكبر، ونعمل على هذا الأساس.
 

(3)

التعقيل الخاص بالثورة السودانية ستنتجه ذات الديناميّات التي صنعت العصيان المدني، وستفرضه إرادة الشعب الحُرة على الواقع.

لستُ وحدي من لاحظ أن العصيان المدني السوداني -والذي دشَّن مرحلةً جديدةً في تاريخ نضال الشعب السوداني. النظام السوداني وبعض الخائفين عليه وعلى أنفسهم وحدهم من يحاولون إنكار ذلك- قد سفّه ليس فقط قراءات النظام والكثير من أحزاب المعارضة للواقع، وإنما أيضاً قراءات الكثير من "المثقفين"، ليؤكد أن الواقع لا يتحرك بالضرورة كما تقتضي خبراتنا ومعارفنا الماضية، مهما اعتقدنا أننا قريبون منه محيطون به. ولكن ليس هذا هو الأهم، لأنه بديهي ومعروف، حتى لو كان ليس بنفس الدرجة عند الجميع.
ولكن الأهم هو أن أيادي الأقدار لم تُزيح السلطات الاجتماعية القديمة من المركز، لتضع مركزاً جديداً.

على أن غياب المركز لا يعني غياب العقل، كما أن العقل في السياق الاجتماعي ليس هو العقل بالمعنى الفلسفي. إن عقلانيّة العصيان المدني الأخير لا تُقاس بالتنظير الذي سبقه أو صاحبه، وإنما بتلك الفطنة الشعبية البسيطة التي حرمت النظام من سلاحه الوحيد، وجعلت كل قوته القمعية بلا فائدة كما لاحظ الكثيرين، كما تتجلى العقلانية في ذلك الوعي الشعبي الكبير الذي لم يعُد بالإمكان أن يُخدع، وفي تلك اليقظة التي يتعامل بها الشعب مع كل الخطابات الموجودة في الساحة.
 

إن التعقيل الخاص بالثورة السودانية ستنتجه ذات الديناميّات التي صنعت العصيان المدني، وستفرضه إرادة الشعب الحُرة على الواقع، فالعقل هو شيء يتحقق من خلال القوة، وليس شيئاً يتم تلقينه أو تدريسه للجماهير.
 

فلقد فشل النظام السوداني في فرض أيديولوجيته على الشعب، وفشل في تغييب وعيه، أي فشل في خلق العقل الذي يريده، رغم كل المؤسسات الموارد التي يمتلكها، ورغم اعتماده على أكثر الأدوات فعالية في ترويض الشعوب المسلمة حتى الآن، أعني الدين. رجال الدين الذين يدعمون النظام يفقدون احترام الشعب باستمرار. وهذا أيضاً رصيد يُضاف لعقلانية الثورة ضد هذا النظام، ولهذا فإن أي محاولة لتشكيل العقل السوداني بمعزل عن الحراك الثوري نفسه، أي كشرط سابق لهذا الحراك، هي محاولة مصيرها الفشل، وستجاوزها الواقع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.