شعار قسم مدونات

رحلات البحث عن الله

blogs - mosque

قصّة درسناها في طفولتنا، كانت من الإجابات القليلة التي نسمعها عندما نسأل عن الله. "من هو الله؟ كيف شكله؟ أين يسكن؟ هل هو ذكر أم أنثى؟ هل هو حقيقيّ؟" أسئلة تدور في عقل كلّ طفل لا يفهم بعد كيف يؤمن بما لا يرى أمامه..

 

قصّة سيّدنا إبراهيم عليه السّلام ورحلته في البحث عن قوّة تجعل كلّ ما يراه أمراً منطقيّاً، وعن إله يلهمه الإيمان وتلك السّكينة التي لطالما كان يبحث عنها.

 

"وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(79)".

 

الكثير ممن حولنا ولدوا مسلمين، ولكن تربيتهم كانت كلّ البُعد عن الدّين، لا آية يحفظونها، ولا تلاوة يفضّلونها ولا قصّة عن حياة رسولنا محمّد يعرفونها

قال سيّدنا إبراهيم عن النّجم "هذا رّبي" ومن ثمّ القمر ومن ثمّ الشّمس، ولكنّهم خيّبوا ظنّه إلى أن أرسل الله إليه وحياً يخبره أنّ الله اختاره ليكون نبيّ قومه، فآمن بالله. لم يوحى إلى سيّدنا إبراهيم في يوم وليلة، ورحلته لم تقتصر على سويعات. وفي كلّ مرّة كان يعلن فيها أنّه وجد "الله"، يكتشف أن ما وجده كان محض خيال فيعود للبحث من جديد، حتّى وجد ضالّته.

 

من ولد مسلماً بدين الله ورسوله محمّد عليه السّلام لا يعرف بالضّرورة معنى رحلة "البحث عن الله"، فنحن لم نحتج أن نسأل، ولا أن نشك، ولا أن نشكّك بأقوال بعض شيوخنا الكرماء أو الفتاوى التي نشأنا عليها، ولهذا نقف بالمرصاد لمن يقرّر البحث، ونتهمه بالكفر والتّيه وندعو له بكل أسى.

 

هذه الرّحلة تستنفذ من الإنسان طاقة مخيفة، ما بين الضّياع والخوف والتّردد والشّك واليقين والبحث والسّؤال. ما يحتاجه الباحث هنا هو يد تساعده باختيار الطّريق، أو كلمة ترشده للحديث الصّحيح وأذن تجالسه ساعات تستمتع فقط قبل أن ينطلق اللّسان، بينما إن اعترف الإنسان بشكّه وواجه ردّة فعلٍ تُسقطه في نار الحميم، ازداد شكّ هذا الإنسان، ووقع بين فكّ حبّه لهذا الدّين وكراهيته لكيفيّة تطبيق أهله له.

 

كات ستيفينز (يوسف إسلام)، وهو مغنّي بريطانيّ كان معروفاً أكثر من مايكل جاكسون في السّتينات وقد أسلم منذ سنوات.  كان كات يتمزّق كلّ يوم ما بين حفلاته على المنصّات أمام الرّاقصات والمعجبات وما بين البحث عن ذلك الإيمان الضّائع عنه والذي أفقده طعم كلّ شيء.. يقول كات "كنت أكتب في أغنياتي عن الحريّة والحياة والسّعادة ولم أكن أدرك أنّني كنت أكتب عمّا تتوق إليه نفسي".

 

في رحلته حول العالم وصل قبّة الصّخرة بعد أن قرأ القرآن لأوّل مّرة، وشعر حينها أنّ كلمات قصائده ذاتها المعاني التي يعطيها إياه القرآن.  كانت رحلة بحثه طويلة وشاقّة أفقدته أموالاً طائلة، ففي السبعينات مثلاً حقّق أكثر من ٤٠ مليون دولار من بيع بعض أعماله، وأفقده اختيار الإسلام عشرات الآلاف من المعجبين حول العالم. كات خرج من الضّياع ودخل في دفء الإسلام حسب وصفه.

 

الكثير ممن حولنا ولدوا مسلمين، ولكن تربيتهم كانت كلّ البُعد عن الدّين، لا آية يحفظونها، ولا تلاوة يفضّلونها ولا قصّة عن حياة رسولنا محمّد يعرفونها، هؤلاء.. إمّا أن يكملوا حياتهم بجهل، أو يدخلوا في دوّامة البحث عن المفتاح. فهل نقبّح بحثهم هذا؟ مع أنّهم حسب بطاقة الهويّة "مسلمون"..

 

رحلة البحث عن الله لا تعني بالضّرورة عدم الإيمان به، بل ربّما هي رحلة البحث عن المفتاح الذي يفتح الباب بينك وبينه، ويقرّبك منه في زمن شوّه المجتمع فيه معاني الإسلام الحقيقيّة، وحوّله لدين سياسيّ خالص، أو دين يتحوّل شكله وطعمه ولونه من مجتمع لآخر ومن منطقة لأخرى حسب المصالح.

 

كلّ يوم هناك من يسلم ومن يكفر، من يرتدي الحجاب ومن يخلعه، من يبدأ الصّلاة ومن يتركها، وبدل معالجة الأسباب نقاتل الفاعل وكأنّ مجتمعنا "الإسلاميّ" وَفَّر كلّ ما يبحث عنه المسلم حتّى لا يضيع

عندما أُسافر، أرى الله في كلّ أمر في حياتي. أراه في خبر سعيد، أو في قصّة حزينة. أراه في أشهى الطّعام، في اختلاف الطّباع والأذواق واللّهجات. في البشرة البيضاء والسّوداء، في المرأة الحامل والطّفل الرّضيع والأب الباكي. في دمعة المحتار، وفي سعادة العائد من غربته. أنا أرى الله في كلّ شيء.. كما الكثير غيري..

ولكن لنتذكّر أنّ هناك الكثيرون كذلك ممن يريدون أن يروا الله في كلّ شيء، مثلنا تماماً، وهذا ما يبحثون عنه.. أنكفرهم لذلك؟

 

هناك من يبحث عن الدين فيخرج منه، وهذا ما يستدعي الكثيرين إلى تقبيح عملية البحث عن الله، خوفاً من فقدان هذا الشّخص لصالح "دين" آخر. وهناك من يبحث عن الخروج فيرى نفسه تعلّق به أكثر. إطلاق الأحكام سريعاً على الآخرين هو جهل، واعتقادنا أنّنا ندرك خلفيّات وأسباب قراراتهم أمر ظالم لهم ولنا. نحن لا ندرك الصّراعات التي خاضوها، وربّما تركهم لبعض مظاهر الدّين هي خطوة من عشرات الخطوات في بحثهم هذا، بدل تكفيرهم والمساعدة في تعميق فكرة اللادين لديهم، خذ بيدهم.

 

كلّ يوم هناك من يسلم ومن يكفر، من يرتدي الحجاب ومن يخلعه، من يبدأ الصّلاة ومن يتركها، وبدل معالجة الأسباب نقاتل الفاعل وكأنّ مجتمعنا "الإسلاميّ" وَفَّر كلّ ما يبحث عنه المسلم حتّى لا يضيع.

صدق رسول الله عليه السّلام "يأتي زمانٌ على أمتي القابض على دينه كالقابض على جمرة من الناس".

 

صراحة، لا أعلم إن كات ستيفنز كان سيُسلم لو أنّه مثلاً عاش في مجتمع "مسلم" أو دولة "مسلمة". أو لو أنّه كان صديقاً لبعضنا على وسائل التّواصل الاجتماعيّ..

 

واختم بآية تذكّرني بالله مع كلّ نَفَس يمرّ بتركيبة جسدي المعقّدة التّي تفوّقت على كلّ اختراعات البشر مجتمعة:

"وفي أنفسكم أفلا تبصرون"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.