شعار قسم مدونات

التجربة المقدسة

blogs-هوس الفيسبوك

يتعامل الناس مع الحياة على أنها مسألة رياضية لها حل ثابت وأن واحداً زائد واحد يساوي اثنين لذا يحاول كل منهم أن يخبر الآخر كيف يحيا بل ويدعوه لسلوك طريقه دون تبصرة منه أننا عدد لا نهائي من الأرقام بعدد لا نهائي من المسائل بحلول لا نهائية.
 

لو كان هناك كتالوج للحياة فلم قد يخلق الله كل هؤلاء البشر، لو كانت احتمالات الحياة كلها تسلك نفس الطريق فماذا كل هذه النسخ من المخلوقات الحية؟! لا أتحدث عن قوانين كونية ثابتة لكن أتحدث عن تجارب شخصية يحاول أصحابها تعميمها للجميع. أتخيل الحياة بوجود كتالوج كان الله ليكتفي حينها بخلق عدد قليل يدركون بعناية لماذا خلقوا، يقوم كل منهم بمهمتم هنا يتبع الجميع الكتالوج من لا يتبع الكتالوج يهلك فورا الأمر مضحك بلا شك بل أقرب لعبث كان الله حينها ليكتفي بخلق الروبوت.

هوس الفيس بوك يجعل الناس مجنونة بالنمطية واتباع النصائح المعلبة ممن هم ليسوا أهلا لذلك، أو ممن يتخذ تجاربه الشخصية ككتالوج وليس هنا وياللأسف كتالوج.

يجرب أحدهم اختيارا في الحياة، فلا يلبث أن يخرج علينا منبهرا صائحا بكل ما فيه من قوة وإرادة للحياة، لابد من كسر التابوهات كلها، لابد من سلوك اختياري فهو جيد وأرضتني نتائجه. ماذا عن كل الأشخاص الذين تختلف ظروفهم بدرجة أو بمئة درجة عنك ومع سطوة السوشيال ميديا على حياتنا وتصديرها للأيقونات الجاهزة كسبيل للحياة؟ من يتحمل ذنب المساكين الذين يستجيبون لضغط السوشيال ميديا؟
 

كم مرة فكرت أن تصدق الإعلان الذي يظهر رجلاً أصلع يتحدث أنه جرب المنتج السحري وشفي تماماً خلال أيام؟ هل جربت أن تشتري أحد هذه المنتجات ذات التسويق الذي لا ينتهي ووضعتها على جسدك واكتشفت أنها لا تفعل شيء، أو أنها تأتي بنتيجة عكسية؟ هذا ما يفعله تماماً من يروج حياته الشخصية واختياراته في الحياة كشيء فعال يناسب الجميع.
 

هل يدرك البعض أن ما يصلح لك قد يفسد تماماً حياة غيرك وما يفسد أيامك قد يكون هو عين الصواب لغيرك؟ أم أننا لا ندرك أننا مخلوقات فريدة بعد؟ هل يختار الناس أم تتولى السوشيال ميديا الاختيار عنهم، وهل تعرف السوشيال ميديا أبعادنا النفسية وتجاربنا السابقة وما نملكه حاليا وما نخشى خسارته وما يمكننا أن نراهن به وما لا نستطيع التخلي عنه حتى تفكر بدلا منا؟

هوس الفيس بوك يجعل الناس مجنونة بالنمطية واتباع النصائح المعلبة ممن هم ليسوا أهلا لذلك، أو ممن يتخذ تجاربه الشخصية ككتالوج وليس هنا وياللأسف كتالوج، لو كان هذا متاحاً لخلعت عقلي جانبا واتبعت الكتالوج بحذافيره حتى أسعد، لكن هذا قدرنا أن نجرب الحياة وتجربنا، أن نخوضها ونتقبل خسارتنا ونجاحتنا ونتقبل أن تجربتنا خاصة بنا لا يمكن تعميمها.

في عُرف مواقع التواصل.. لا يهم إن كانت حياتك العاطفية فاشلة ما دمت خبيرا فسيبوكيا في العواطف وإصلاح البيوت، لا يهم حقيقة تدينك ما دمت قد قرأت ما يكفيك للتظاهر بأنك صاحب ديانة.

خذ كمثال طفلين نالا نفس القدر من التربية والصرامة والتلقين الديني أحدهم صار راهباً والآخر صار مجرماً كيف حصل هذا التباين الرهيب بين شخصين متشاركين في نفس الرحم والمنزل والتربية وكل شيء! هذا موقف افتراضي متكرر في الواقع، لذا لا شيء ثابت ولا تؤدي نفس السلوكيات لنفس النتائج طوال الوقت.
 

أفكر كم واحداً أفسدت السوشيال ميديا حياته ويرق قلبي لهم! كم منزلا فسد! وكم رب بيت ترك عمله مفتوناً بالذي شارك تجربته بالعمل الحر ومن ثم فوجئ بأن الأمر ليس بهذه البساطة وأنه قد أفلس وليس له مصدر دخل! كم سيدة أخرجت طفلها من المدرسة لتعلمه تعليماً منزلياً ثم فوجئت بأنها منهكه وبأن الأمر لا يفلح مع طفلها وبدأت بالتذمر طوال الوقت وذم التعليم المنزلي! كم فتاة بنت حياتها العاطفية على أساس القمامة التي تصدر لنا ليل نهار على فيس بوك باعتبارها تجارب غاية في اللطف تصلح لكل مكان وزمان وأي شخص! كم قلبا سيتشظى هنا ومن سيتحمل نتيجة هذا التشظي؟
 

هل العمل الحر أو التعليم المنزلي أو.. اختيارات سيئة؟ لا هذا ليس صحيحاً، هي اختيارات تفلح مع البعض ولا تفلح مع البعض الآخر، ولا نناقش هنا صوابها من عدمه بل نناقش السير غير الواعي المنبهر بالصورة الظاهرية. بل ثمة سؤال أكثر أهمية من أخبرك بأن اختيارك هذا أصلا يصلح لك، هل عشت بعده عشر سنوات وأنت الآن تقيمه وتخبرنا بالنتائج؟ هل بدأت في حصد النتائج؟ هل وهل؟.. لا، فهذا لا يحدث في أغلب التجارب المنقولة، بل هي ضربات فرشاة رسم تخرج أحياناً لوحة لبيكاسو فيظن أنه لو فعل كل الناس نفس الضربات بالفرشاة على اللوحة لخرجت لنا نفس اللوحة وهذا غير صحيح على الإطلاق.
 

أرى أناساً أعرفهم على أرض الواقع وأرى تجاربهم المليئة بالقبح ثم فجأة أجد نفس الشخص يعطي ببذخ خبراته فيما لا يعرف ويدعو الناس لما لا يدرك.

أتحدث هنا عمن قرر أن يسلك طريق غيره ويتبع النصائح المعلبة، وهناك نسبة لا بأس بها من الناس تشاهد النصائح المعلبة واختيارات الآخرين لكنها لا تسلكها، إنها تسلك طريق آخر يدمرها يتحسر باستمرار على حياته واختياراته ويعمل عقله دون توقف في مقارنة لا تنتهي بينه وبين من سافر أو بينه وبين من نال أي قدر مختلف من الحياة وصدرها لنا لنتبعه جميعا. لماذا لا يكتفي كل واحد منا بالنظر في صحيفته أليست هذه فكرة جيدة؟ على أية حال لماذا تلتوي رؤوسنا يمينا ويسارا للتطلع في صحف غيرنا؟ فلا نحن أحسنا القراءة ولا نحن طالعنا بوضوح صحيفة الغير!

أمر آخر لا ينتبه له الناس التحذير الشهير على مرآة السيارة بخصوص أن الأجسام في الواقع أصغر أو أكبر مما هي عليه في المرآة ينطبق هنا أيضا بشكل أو بآخر، فالزيف صار عنوان الأشياء وهو الذي يعطيها الطلاء المبهر لم يعد مهما كيف هي حقيقة أمرك المهم هو ما تبدو عليه، لا يهم إن كانت حياتك العاطفية فاشلة ما دمت خبيرا فسيبوكيا في العواطف وإصلاح البيوت، لا يهم حقيقة تدينك ما دمت قد قرأت ما يكفيك للتظاهر بأنك صاحب ديانة..
 

أرى أناساً أعرفهم على أرض الواقع وأرى تجاربهم المليئة بالقبح ثم فجأة أجد نفس الشخص يعطي ببذخ خبراته فيما لا يعرف ويدعو الناس لما لا يدرك، هو نفسه أبعاده وقد نجمت السوشيال ميديا أشخاصاً دون آخرين بمعايير لا يحكمها شيء، ومن ثم صارت استجابة بقية الخلق سهلة وآنية لكل ما يهذي به أصحاب النجومية بغض النظر عن سبب النجومية الذي قد لا يكون شيء ذا قيمة.
 

لقد اختلط كل شيء على أرض الفسيبوك، يختلط الواقع بالزيف والحقيقي بالخيال والقابل للتحقيق بغير القابل للتحقيق.. لذا الأجسام ليست كما تبدو عليه في المرآة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.