شعار قسم مدونات

في الحاجة إلى التنظير

blogs - book

"في البدء كانت الكلمة"

إنجيل يوحنا.
 

(1)

كلُّ قضية تَوقفَ الحكمُ الشرعي فيها على العلم بمقدمات من علوم غير دينية؛ كالطب، أو السياسة، أو الاقتصاد، أو الاجتماع= فإن من أفتى فيها وهو جاهلٌ بتلك المقدمات، أو ناقصُ العلم بها؛ كانت فتواه حرامًا، وكان متصدرًا لما لا يحسن، واضعًا نفسه في منزلة فوق منزلته.

ومثله كمثل من غَرَّه علمه بهذه المقدمات من العلوم الدنيوية، وكان جاهلاً بطرائق بناء الحكم الشرعي عليها.

يقول شيخ الإسلام "الواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح، الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين؛ فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا". قلت: وأعظمُ بلاءٍ ينزل بأهل بلد: ألَّا يُعلم فيهم من هو أهل لذلك!
 

الحاجة إلى التنظير في مجتمعاتنا حاجة ماسة جدًا لا يمكن التغافل عنها أو أن يذهلنا عنها ويصرفنا الذين لا يوقنون.

والإمكانات المادية والتقنية الكبيرة التي يحتاجها الإبداع في العلوم الطبيعية والتقنية= يجعل من الصعب اكتمال نموذج إبداعي بعيداً عن الهياكل والمؤسسات الكبرى.

بعكس الأديان والعلوم الإنسانية؛ حيث تتسم كل لحظات الإبداع ونماذج العبقرية فيها بالطابع الفردي ونادراً ما احتاج الإبداع في هذه المجالات لمؤسسة داعمة، بل أحياناً كثيرة تكون المؤسسات عدوة للإبداع في هذه المجالات.

إن هذا يعني أن الإنتاج النظري في العلوم الاجتماعية والإنسانية، والانتقال منه إلى إنتاج الرؤى والأفكار المتعلقة برؤية العالم، وتفسير التاريخ، وقراءة الواقع، واستشراف المستقبل= كل ذلك يكاد يكون بمثابة الفرصة السانحة لا يحتاج لأدوات أكثر من احتشاد ذوي الموهبة، وجمعهم لأمرهم على القراءة والدرس والنقاش وتلاقح الرؤى والأفكار من أجل توليد ما ستتم مراكمته وتنقيحه ودوام مراجعته بعد ذلك باعتباره إرثًا نظريًا لهذا الجيل.

وهل نحن نحتاج إلى كل هذا؟ الجواب: نعم. ولم ولن تكتفي أمة قط من التنظير، ولا تكف أمة عن طرح الرؤى النظرية لعالم وواقعها وتاريخها ومستقبلها إلا بقدر ما تكون هذه الأمة قد ماتت بالفعل.

(2)
صياغة العلاقة بين النظر والعمل، أو بين الفكر والحركة= من أدق الموضوعات وأكثرها تشابكًا، ولا أزعم أني أملك حلًا تامًا لهذه المعضلة، كما أني لا أؤمن بالحل الذي يجعل الصياغة المثالية للعلاقة بينهما هي وجود جسور تنسق بينهما، مع كوني أؤمن بضرورة هذه الجسور لكني أنازع في كفايتها.

كما أني لا أؤمن بالرؤية التي لا ترضى إلا بمنظر فاعل، أو مفكر حركي، فهي أيضًا غير سديدة، بل كثير من الفاعلين يرى الأشجار ولا يرى الغابة بما يعجزه عن إنتاج رؤى سليمة، وكثير من المنظرين المبهرين في العالم الآن ليسوا حركيين، بدءا من أساتذة استراتيجيات الحرب الذين لم يخوضوا حربًا ميدانية قط، وانتهاء بالمدرب الاستثنائي الذي لم يلعب الكرة بشكل احترافي قط مرورًا بأعظم نقاد الشعر الذين لا يحسنون نظم قصيدة واحدة.

لكن الذي أؤمن به إيمانًا تامًا في هذا الموضوع وأجعله ركنًا من أي حل: هو دوام حالة المراجعة المتبادلة بين أهل النظر والعمل، يصلح أهل النظر رؤاهم بناء على ما ستجد من تحديات العمل، ويطور أهل الحركة عملهم ويفعلون تجاربهم فيه بناء على ما يحصل من تطوير في الرؤى النظرية لدى المتخصصين وأهل البحث والنظر.

وتبادل الأدوار المرجعية هذا هو جزء مهم وأصيل في التقدم والقوة؛ فإن أية نظرية تبنى بعيدة عن مراعاة تحديات الحركة= لا يمكن تفعيلها والانتفاع التام منها، وأي حركة لا تعالج أخطاءها وتصوغ تطور حركتها بناء على الرؤى النظرية المتفاعلة مع تطورات عملها= ستكون خبط عشواء لا يُرجى منها ما يرضي ربها.
 

(3)

وفقًا لمخطط وضعه أحد الباحثين فإن أية نظرية نقدية تريد أن تكون تامة التكوين لابد أن تحتوي على أربع نظريات:

أولاً: نظرية عن الوعي الزائف والأفهام الزائفة والطرق الفاسدة التي تفهم بها مجموعة من الناس ذواتها وواقعها.

ثانياً: نظرية عن ماهية الأزمة التي تعيشها هذه المجموعة وكيف وقعت فيها ولماذا لا يمكن القضاء على هذه الأزمة إذا ما استمر هذا المجتمع على واقعه وعلى أفهامه.

ثالثاً: نظرية تعليمية عن الشروط الضرورية والكافية للوصول لرؤية سليمة ومفاهيم صحيحة وإدراكات غير مزيفة.

رابعاً: نظرية عن فعل التغيير وطرائق الخروج من حالة الوعي الزائف والنجاة من واقع الأزمة، والخطة اللازم اتباعها من أجل الوصول إليه ومن هم الفاعلون المناط بهم التنفيذ.
 

هذا واحد من أطر أخرى كثيرة يمكن عن طريقها وباستعمال أدوات ومناهج تتنوع بتنوع التخصصات المعرفية وجهات الاشتغال النقدي= مراكمة إنتاج نظري في مختلف جوانب المعضلات المعرفية والسياسية والاجتماعية والنفسية والتربوية والتعليمية؛ التي نتعامل معها سواء من جهة كوننا مسلمين أو من جهة كوننا عربًا أو حتى من جهة كوننا أبناء قوميات بعينها بل ومدن بعينها، إلى أن تضيق دائرة الاشتغال فنصل لمحاول مراكمة إنتاج نظري لإدارة وضع فردي أو أسري معين.
 

هذه الكثافة التنظيرية مقصودة تمامًا، والحاجة إلى التنظير في مجتمعاتنا حاجة ماسة جدًا لا يمكن التغافل عنها أو أن يذهلنا عنها ويصرفنا الذين لا يوقنون، وأزمة الفجوة بين النظر والعمل، وبين المعرفة والتطبيق هي نفسها تحتاج في علاجها لتنظير لسبل تجاوزها، وقد وجدت في تجارب الأمم من حولنا أطروحات عملية لمواجهة هذه الفجوة رسخت عندي المفهوم الذي أطرحه هنا: أن تجاوز المعضلات أوله كلمة، وأن الأطر المعرفية والنظرية هي حجر الأساس حتى لتجاوز مشكلات المعرفة والتنظير نفسها.
 

أسوأ ما يقع: أيديولوجيات تزعم نفسها أحسن من أختها وهي مثلها في الانغلاق والضعف والعجز وهي مع ذلك رعناء ليس فيها حتى دين وخلق أولئك.

إن النظر الذي يعتمد على جمع ما يتعلق بالمسألة، والنظر في أجزاء المسألة جزءًا جزءًا، مع جودة ترتيب المقدمات والنتائج، واختبار ما يتم إيراده من الحجج، والعمق في استقراء أسباب الظواهر وصولاً إلى تفسيرها، مع الحذر من السطحية، والتفسيرات الواحدية، ومع فتح النسق، وتقدير احتمال الخطأ= هذا هو التفكير المستقيم الذي يقود للعلم، ويُنقذ صاحبه من براثن المغالطات والأوهام، وبمثل هذا التماسك المنهجي: أقام الأئمة صروح العلم.

ومن الطبيعي جدًا أنَّ الطرح السطحي الخطابي الصحفي الذي يسوق الدعاوى على أنها مسلمات، ومَحالَّ النزاع على أنها بدهيات، ويستعجل في الاستقراء، ولا يحسن اختبار الحجج؛ سيعتبر مثل هذا التفكير المستقيم = فلسفة، وتنظيرًا باردًا.

وعندما تكون جودة التفكير فلسفة، وإحكام الفقه تنظيرًا= فَوَدِع من الإصلاح؛ فإنه حينئذ أمنية لا يُعمل لها!
 

إن أصحاب الأيديولوجيات المغلقة المتكلسة لا يحسنون المراجعة ولا التطوير ولا يثقون في أي تجديد يحفزهم على تغيير نمط الأفكار والرؤى، يفكرون دائماً في اللحظي والآني وكبسولة المعرفة التي تكفي من أجل الحركة، وكفانا تنظيراً، باستثناء التنظير الذي يخدم الأيديولوجيا بالطبع.

ويد الله حين تعمل في فسح مجال من الأسباب= فهذه الأيديولوجيات تظل عاجزة عن الانتفاع من هذا المجال الذي فُسح، وتظل كل واحدة منها تسير على قضيبها القديم، عاجزة عن الاستجابة المناسبة؛ لأن الاستجابات المناسبة لا تكون إلا عن دربة مرهقة ومران طويل قديم.وإن الله لا يظلم أحداً ولا يصيب الناس مصيبة إلا بما كسبت أيديهم والله يعفو عن كثير.

وأسوأ ما يقع: أيديولوجيات تزعم نفسها أحسن من أختها وهي مثلها في الانغلاق والضعف والعجز وهي مع ذلك رعناء ليس فيها حتى دين وخلق أولئك، تطبب زكام أولئك بجذام. ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.