شعار قسم مدونات

عن الوعي بالإنسان

عن الوعي بالانسان
قبل أن نبدأ في فهم العالم وفهم الآخرين، من المهم أن نتساءل عن أنفسنا. هل نحن على وعي بأنفسنا وبطريقة فهمنا للعالم والأشياء؟ وكيف نعرف ذلك؟

إن ما نعتقد أنه ذاتنا أو هُويتنا، كأفراد أو كأُمة محددة من الناس، هو ليس دائماً معطىً مباشراً، فنحن ندرك ذواتنا وأنفسنا من خلال اللُّغة والفكر، وإن وعينا لأنفسنا هو دائماً فكرتنا التي تحملها اللُّغة. وإن كُنا قد نمتلك القدرة على تطويع اللُّغة لنعبر بها عن أنفسنا وعن فكرنا، وذلك عندما نصل إلى مرحلة متقدمة من المعرفة والوعي، إلا أن اللُّغة والأفكار التي نستخدمها في البداية هي لغةٌ وهي أفكارٌ سابقة على وجودنا. أي أننا نبدأ في النظر إلى العالم، بل وإلى أنفسنا أيضاً، من خلال مفاهيم سابقة لوجودنا، وهذه المفاهيم هي الشروط الأولية التي تكيّف وجودنا كله.

قد لا نستطيع أن نبرهن على حرية الإنسان، ولكننا مضطرون لافتراضها على الأقل

إننا لا نملك إلا أن نفترض القدرة على تجاوز هذه الشروط من خلال التفاعُل معها فهماً ونقداً. أعني القدرة على تجاوز حدود اللُّغة والفكر التي تشكِّل الشروط الابتدائية لمعرفتنا. مثلما أننا مضطرون لافتراض امتلاك القدرة على تجاوز الشروط الماديّة لوجودنا. فنحن قد لا نستطيع أن نبرهن على حرية الإنسان، ولكننا مضطرون لافتراضها على الأقل، لأننا في حالة رغبة مستمرة في التقدُم فكريّاً وماديّاً، فهذه الرغبة هي التي تحتِّم افتراض الحُريّة.

إن الوعي بالذات (أو بالهوية) يبدأ من اللحظة التي ندرك فيها أن الذات هي ليست معطى مباشراً، ليست واقعاً في متناول الإدراك والوعي بلا توسط من اللُّغة والفكر، بل هي حصيلة ونتاج لعملية معرفة. أي أننا لا ننظر لأنفسنا دائماً من الداخل، وإنما من الخارج وربما أيضاً بعيون أشخاص آخرين عاشوا في أزمنة سابقة، وذلك لأننا نستخدم اللُّغة حتى حينما نفكِّر في ذواتنا الفردية.

وهُنا يدخل الزمن كعامل أساسي في تحديد الذات، فهي كائنٌ زمني، توجد داخل الزمن وليس فوقه أو خارجه، أو بعبارة أُخرى الهوية ليست شيئاً ساكناً. إن إدراك الفرق بين ذاتنا في ذاتها أو كما هي وذاتنا كما ندركها من خلال لغتنا وفكرنا أو كما تبدو لنا، والفرق بين هُويتنا في ذاتها وهُويتنا كما ندركها أيضاً من خلال اللُّغة والفكر هو الخطوة الأُولى في وعينا بذواتنا وهويتنا.

إذاً، هُناك دائماً معرفة عن الذات، هذا إن لم تكن الذات هي نفسها معرفة محضة، وليست واقعاً. بمعنى أنه ليس هُناك مقابل موضوعي لهذه الذات/المعرفة، وإنما هي فقط فكرٌ ووعي. لماذا؟ لأننا إذا افترضنا أن هُناك معرفة من جهة و ذات من جهة أُخرى، فإننا لا نستطيع الخروج من هذه الثُنائية و النظر من الخارج لتحديد ما إذا كانت معرفتنا عن الذات متطابقة مع الواقع، و ذلك لأننا لا نستطيع الوقوف خارج أنفسنا و خارج معرفتنا لأن ذلك مستحيل. فالأمر هُنا متعلق بمشكلة الموضوعيّة. ولذا فإن كل ما نملكه هو النقد وإعادة التفكير والفهم ثم التجاوُز باستمرار.

إن الصعوبة في افتراض وجود موضوعي للذات أو الهوية الفردية والجماعية ليست ناتجة محدودية قدرتنا المعرفية وحسب، وإنما أيضاً بسبب طبيعة الذات أو الهوية نفسها، فنحن عندما نتكلم عن الذات والهوية لا نشير إلى الخارج، إلى الواقع الموضوعي، وإنما نشير الى أنفسنا. ومن هُنا فإن أقصى ما يُمكن تحقيقه هو النقد والتطوُّر والتجاوُز المستمر.

عملية إدراك الذات والهوية هي في نفس الوقت صناعة للذات وللهوية، وكلما تغيرت الطريقة التي ننظر بها الى أنفسنا كلما تغيرنا نحن أيضاً

وغنيُّ عن القول أن المعرفة التي نحملها عن أنفسنا أو الطريقة التي ننظر بها إليها هي أيضاً جزءٌ لا يتجزأ من ذاتنا و هويتنا. فعملية إدراك الذات والهوية هي نفس الوقت صناعة للذات وللهوية، وكلما تغيرت الطريقة التي ننظر بها الى أنفسنا كلما تغيرنا نحن أيضاً. إذا لا تُوجد ذات بمعزل عن النشاط الفكري والمعرفي، وإذا توقف هذا النشاط لن يكون الإنسان أكثر من مُحصِّلة لمجموعة اعتباطية من العوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية، يتوهم أنها تمنحه ذاتيته وهُويته دون أن يقوم هو بأي فعل إيجابي.

وهكذا نسقط في الانتماءات الجاهزة والمُحددة سلفاً، ونفشل في تجاوُز الشروط التي تحدِّد وُجودنا، ننظُر للعالم ولأنفسنا كما يُراد لنا أن ننظُر، أي ننظر لا بعيوننا ولا بعقولنا وإنما بعيون وعقول أُخرى غريبةٌ عنّا، وهكذا نصبح مجرد صدى بلا وجود حقيقي، بلا وعي بالذات وبلا هُوية.

وإذا كان الإنسان يفقد هُويته عندما يتوقف عن المعرفة والتفكير، فهو أيضاً يفقدها عندما يفشل في الوعي بالمسافة الفاصلة بين المعرفة والواقع، أي عندما يفشل في ممارسة النقد الدائم للمعرفة.

هذا الكلام على الرغم من أنه قد يبدو بسيطاً إلا أنه من الصعوبة بمكان عندما يتعلق الأمر بالتطبيق والعمل. فنحن قد نميل كثيراً الى نسيان حقيقة أن أفكارنا ورؤانا عن العالم وأنفُسنا والآخرين، هي مجرد معرفة، والمعرفة بطبيعتها ليست هي الواقع وهي دائماً عُرضة للنقص والخطأ.

أقول على الرغم من معرفتنا بذلك إلا أننا كثيراً ما نقع في النسيان، وذلك لأن هذه "الحقيقة" (مع كل الحذر الواجب في استخدام هذه الكلمة ولهذا أضعها بين مزدوجين لمّا تتغلغل في أعماقنا، تماماً مثل الإيمان الديني السطحي الذي لم يتجاوز الأفواه الى القلوب وأعماق الكيان الإنساني، وهذا مجرد تشبيه وصفي لا أكثر.

نواصل..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.