شعار قسم مدونات

عُمرٌ إضافي

blogs - najjar
"على الرغم من أنها تجربة لا يمكن مقارنتها مع تجارب الملايين من المعذبين من البشر، لاسيما من يتعايشون مع حروب تقتلهم كل يوم، فإنها على المستوى الشخصي كانت لحظة فارقة مع حياة أعتبر أنها انتهت، وأنني أعيش من وقتها عمرا إضافيا".

كان اليوم هو الخميس الخامس من شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام ٢٠١٢، عشت قبله ليلة صعبة للغاية، انتقلت خلالها من جرجناز بريف إدلب إلى مدينة حلب التي كانت تشهد معارك ضارية وقتها في رحلة استغرقت أكثر من عشر ساعات تخللتها مواقف المرور بجانب الموت عدة مرات.
 

مررنا في ذلك الطريق بمساحات واسعة من الجغرافيا، تعيش فيها مكونات تمثل جزءا من الديموغرافيا السورية، دخلنا العديد من القرى والبلدات، وكنا في بعضها على تماس مباشر مع خطوط المواجهة مع النظام السوري، وأبرزها على الإطلاق يومها مطار تفتناز (حرره الثوار من النظام السوري عام ٢٠١٤).
 

سرنا في الظلام الدامس وسط شعور عاش معي بأن الله كتب لي أن أموت في ذلك اليوم، لكنني أعيش من وقتها في عُمر أعتبر أنه إضافي، وها أنا أدوّن..

وللمفارقة أنني كنت قد زرت تفتناز قبلها مرتين، في الثانية منهما عرفت معنى الرعب الذي شكله هذا الموقع لكل القرى التي تحيط به، وكيف هجر يومها أهالي تفتناز قريتهم التي تحولت لكتل من الخراب بفعل البراميل المتفجرة، وبالتالي كانت العودة بالقرب منه تنطوي على قدر غير يسير من الرعب الذي يلازم الإنسان وهو يتذكر صور الطائرات المروحية التي كانت تحوم في الأجواء على مسافات قصيرة بحثا عن صيد تلقي عليه براميل الموت.
 

في منتصف الطريق، ومنتصف الليل أيضا، وصلنا لبيت عائلة سورية، رب الأسرة فيها متقاعد من أحد أجهزة المخابرات السورية التي غادرها بقرار أن يتوب إلى الله مما شاهده من هول الظلم في أقبية النظام.
 

والمفارقة أن أبناءه كانوا يعملون في مجموعة متخصصة بتلغيم الطرق التي تسلكها قوات النظام التي كانت وقتها تصول وتجول، قبل أن تخسر السيطرة على محافظة إدلب لاحقا.

كانت الكهرباء مقطوعة، وتحت جنح الظلام تناولنا عشاء خفيفا؛ زيتا، زعترا، مربى، وخبزا ريفيا، إضافة للشاي.. واستمعت من الرجل لجزء من تجربته وحياته في الجهاز الأمني السوري، وقرأت في قصته تناقضات حياة السوريين من التعايش مع الظلم والقهر قبل الثورة، إلى الانخراط فيها رغم الثمن الباهظ الذي كان أكثرهم يدرك أنه سيدفعه لا محالة بعدها.

بعد ثلاث ساعات من النوم وسط وحل الحشرات القارصة استيقظنا على صوت أذان الفجر، وقد عادت الكهرباء فجر ذلك الخميس، صلينا ومكثنا قليلا، قبل أن ننطلق لاستكمال طريقنا.

وقتها لفت نظري الكثير مما شاهدته حولي في القرى التي مررنا بها، فالحياة تدب وسط الدمار وحالة اللانظام واللاأمن، لفت نظري بالذات مرورنا بعفرين، المدينة الكردية، كانت بمثابة مفاجأة سارة بالنسبة لي.. مدينة في غاية التناسق والجمال، بيوتها تأخذ ذات الشكل في البناء الحجري القديم إلا ما ندر من مبنى هنا أو هناك، وشاهدت مدى التنسيق وقتها بين كتائب الجيش الحر وبين المسلحين الأكراد، قبل أن تنقلب الصورة فيما بعد.

استكملنا الطريق طوال ساعات الصباح الأولى حتى بدأنا بالوصول إلى أصوات القصف، كان الهول الأول الذي فاجأنا عند وصولنا لمدخل المدينة الصناعية في الشيخ نجار بحلب هو الجلبة التي أحدثتها طائرة مقاتلة كانت تحوم بالأجواء.
 

كان الناس ينزلون من سياراتهم ويلجؤون لأول مكان يعتقدون أنه سيحميهم، ووسط ذلك كان قرار السائق الاستمرار بالمسير بسرعة، وهو ما حدث. 

بدأت رحلتنا وسط الردم، كانت المشاهد صادمة لبيوت حلبية واسعة في غاية الجمال أصبحت للأسف غاية في الدمار

وصلنا بعد معاناة، وعلى وقع صور لا يمكن أن تنسى للدمار الذي كان يطاردنا أينما حللنا، وصلنا لوجهة الاستقرار. كان من المفترض أن نرتاح قليلا في مساكن هنانو، لكنني وجدت فرقة من الكتيبة التي قررت المسير معها تتجهز للمغادرة للاشتراك في اشتباك، كان قد بدأ بالقرب من فرع المخابرات الجوية بين حيي الميدان وبستان الباشا.

كان قراري هو أن أنتقل لذلك المكان، وبعد جدل استمر لوقت قصير، بدأت رحلتنا تخترق الموت، وكلما تقدمنا نحو المكان كانت أصوات الطائرات وقصفها يزداد.
 

واحدة من الصور التي لا يمكن أن أنساها؛ مشهد صاروخ كان يهبط كتلة من اللهب باتجاه دوار الصاخور، لم أعرف نتائجه فقد سلكنا طريقا أبعد قليلا، وفي الطريق كان الناس يقفون طوابير على بعض المخابز لا يأبهون بالموت الذي اعتادوا العيش معه.

بدأت رحلتنا الراجلة بعد أن أوصلتنا السيارات لأقرب نقطة ممكنة، كنا نسير بحذر، وكان هناك أشخاص يسيرون أمامنا للكشف عن قناصين أو أي خطر، وكانت توصية قائد المجموعة إضافة لشخص لا أنساه لقبه "أبو عبد الله" للجميع بضرورة حمايتي وعدم تعريضي لأي خطر.

وصلنا إلى حي بستان الباشا، وكانت المعركة هي محاولة السيطرة على فرع الزراعة القريب على أطراف حي الميدان، وذلك بعد ساعات من عملي في التصوير وإجراء المقابلات واستطلاع المكان بالنواظير، وفيما كانت القصص لدي تكتمل من المكان والرغبة بالانتقال لرصد حال الناس في حي الصاخور الذي كان يشهد قصفا عنيفا.

كان حديث قادة المجموعة عن ضرورة التوجه لسحب جريحين أو جثتيهما عبر الالتفاف من خلف كنيسة قديمة قريبة، طلبت منهم الانتقال إلى هناك لتغطية هذه المغامرة من جهة، ولزيارة الكنيسة من جهة أخرى ورصد حالها، خاصة وأنها كانت وفق تقديرهم من كنائس حلب التاريخية، وإعداد قصة مستقلة عنها.

بعد أخذ ورد، وافق أحد القادة على انتقالي، لكنه طلب مني الانصياع لكل الأوامر لسلامتي وسلامة من معي، إضافة للطلب مني -كما كل أفراد المجموعة- استطلاع المكان عبر منظار لأعرف الجغرافيا التي أتحرك فيها ومكان قناص كان على بعد عشرات الأمتار من المكان.

كان عددهم سبعة، وأنا ثامنهم، بدأت رحلتنا وسط الردم، كانت المشاهد صادمة لبيوت حلبية واسعة في غاية الجمال أصبحت للأسف غاية في الدمار.

وبعد أن تجاوزنا القسم الأصعب منها كما كنّا نعتقد، وفيما بدأنا بالدخول إلى أحد المباني، فجأة.. انفجار بجانبنا.. غبار كثيف.. صراخ.. سقط البعض واختفى البعض الآخر قليلا.. دارت الدنيا من حولي.. كانت النار تدب في رجلي اليمني من الأسفل، أشعر بأن سائلا يغلي يغرق حذائي..

لأقل من دقيقة شعرت بأنها أيام وأسابيع، لم أعرف ماذا يحدث، بعدها ووسط حالة من الوعي القليل قمت بسحب أحد المصابين على الأرض للداخل، وسط نداء من أحدنا: الكل لجوا (للداخل).. صوت دبابة أطلقت قذيفة ويمكن باتجاه مكاننا.

في الداخل ووسط الظلام الدامس لم أكن أدرك ما يحدث، فقط أسمع أصوات آهات للجرحى، فيما كنت أتحسس بحثا عن كاميرتي، وأسأل من حولي عن حالهم.

بعد دقائق سمعت صوت أبو عبد الله من بعيد يطالبنا بالانسحاب فورا، كنت أسمع صوته ولا أكاد أستجمع قواي جراء النزف الشديد الذي كنت أشعر فيه من أسفل رجلي اليمني.

كان الصوت يطلب أن يتم تأميني، كان يقول "جيبولي الصحفي"، في اللحظات بين الانتقال والوصول لمكان الانطلاق كانت ذاكرتي قد دخلت في غيبوبة، خلالها جاءتني صور سريعة، واحدة لابنتي راما (كان عمرها يومها سنة وشهرين).. أمي.. زوجتي.. أولادي، ثم غبت عن الوعي، ولا أقول كلاما غريبا إن قلت إنني اعتقدت أنها النهاية..

جلست على مدخل المستشفى وسط حالة من الوعي واللاوعي، أنهاها مشاهد الجرحى والقتلى التي كانت تنقل لداخل المشفى، أكثرها إيلاما وقسوة صور الأطفال المنقولين من تحت الردم والهدم بفعل القصف الوحشي

وسط حالة النهاية التي سيطرت علي، كان يردد بالقرب مني شيخ منخرط في الكتيبة أدعية ويقرأ القران، وهو ما زاد شعوري بأنني على موعد مع مفارقة الحياة، كانت الجلبة من حولي تطلب عبر أجهزة الاتصال سيارة إسعاف "لأن هناك جرحى من بينهم صحفي"، وكان صوت أبو عبد الله الأقرب لي، وكأنني ميت يستمع للأحياء من حوله، بعدها استفقت وكان الشيخ على يميني وأبو عبد الله منشغل بمحاولة وقف النزيف من قدمي.

على صوت إسعاف ضعيف بدأت باستعادة قواي، وكانت أصوات الجرحى من حولي تطلب المساعدة.

وصلت لبقايا مشفى الشفاء في حي الشعار (أصبح أثرا بعد عين عقب قصفه على خمس دفعات بالبراميل المتفجرة)، نزلت بمساعدة أحد الشبان، قابلتني ممرضة وطلبت مني الجلوس، تم رفع رجلي وبدأت إجراءات معالجة انتهت بقطع نزيف الدم دون أي مسكن للألم.
 

بعد تصوير رجلي، أبلغني الطبيب بأن شظيتي قذيفة هاون اخترقتا رجلي اليمنى وخرجتا، وهو ليس متأكدا إن كانت هناك شظية ثالثة أو بقاياها في رجلي، وأنه لا يستطيع أن يفعل شيئا لي أكثر مما فعل.

جلست على مدخل المستشفى وسط حالة من الوعي واللاوعي، أنهاها مشاهد الجرحى والقتلى التي كانت تنقل لداخل المشفى، أكثرها إيلاما وقسوة صور الأطفال المنقولين من تحت الردم والهدم بفعل القصف الوحشي.
 

لكن الصورة التي لن أنساها ما حييت، هي صورة ذلك الرجل الذي نقل لباب المشفى وسجي على الأرض بعد أن فارق الحياة وغطي برداء بسيط لأنه لا مكان لجثته في الثلاجة، وكان القرار أن يبقى حتى صلاة العصر فإن لم يأت أحد للسؤال عنه دفن، ومصيره كمصير عشرات الضحايا الذين يدفنون بدون أن تعرف هوياتهم.

كانت نهاية اليوم قاسية، ففي الليل وأمام تفاقم وضع رجلي تم البدء بنقلي من حلب لريف إدلب مجددا، واجهتنا محطات مع موت محقق، أخطرها مرورنا قرب مطار النيرب، حيث التوقعات بوجود كمائن للنظام وشبيحته في الطريق، فحذرنا حاجز لأحد فصائل المعارضة بأننا نغامر كثيرا بالعبور وطلب منا العودة، لكن السائق أصر على الاستمرار.
 

سرنا في الظلام الدامس وسط إطفاء أنوار السيارة وسط شعور عاش معي بأن الله كتب لي أن أموت في ذلك اليوم، وإن كان القدر قد تجاوز عني أول النهار، فلن ينتهي ذلك الخميس إلا وقد غادرت عالم الأحياء.

بلغت القلوب لنا في السيارة الحناجر، وكنت أعيش مع أذكار اللحظات الأخيرة..

لكنني أعيش من وقتها في عُمر أعتبر أنه إضافي، وها أنا أدوّن..

undefined

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.