شعار قسم مدونات

الحكاية.. فعل تحرير

blogs - t

في صغري ، عندما أسمع حكاية، لم أكُنْ أفكّر أبدًا أنّ الشخصيّات بشرية. أو أنَّ في هذا العالم مَن سيكون بهذا القدْر مِن الصفاء والحكمة التي كانتْ عليها شخصيّات الحكاية. في كلّ لحظة كنتُ أشعر أنّه عالَمٌ آخر، موازٍ ربما، أو شيءٌ مثلما كنّا نشاهدُ في التلفاز مِن الكرتون، شخوص عظيمة، والكثير من الأبطال، في أرضٍ هي أرضُ الفضائل لا محالة.
 

بعدَ ذلك، أدركتُ أنَّ كونَ الحكايةِ حكايةً هو ما يعطي لشُخوصِها كلَّ تلكَ الملائكيّة، وليست الشخوص هي التي تمنحُ الحكاية عناصرَ الألَق.. قررتُ وقتَها أن أجرّب، أن أحوّل واقعًا إلى حكاية، تحملُ معانٍ لا تقدرُ على حمْلِها غيرُ الحكايات.

أن أصنعَ من مشهدٍ.. قصّة.. "على الرصيف طفلٌ يبكي، تقبضُ معصمَه امرأة، بعباءةٍ موضوعةٍ كيفما اتَّفق. تحملُ أكياسًا صفراء، وأُخرى زرقاء. خلفها بابٌ نصفُ مفتوح، تفوحُ منه رائحةُ بشَر. قطعَت الشارع. كانتْ تبكي. نظرت إلى السماء، كأنَّ أثقالَ الدنيا كلّها فوقَها".. وقتَها علمتُ أنَّ تعاطُفنَا مع الحكاية، يأتي من الحكايةِ ذاتِها.
 

أنْ تكتبَ حكايةً يعني أن تحرِّرَ جزءًا مِن هذا العالم. أن تكب حكاية يعني أن تسبق الموت

بعدها، صرت أحبُّ الحكايات. أقدِّسُها. وأعمل قدر ما استطعْت على أن أصنع ممّا أرى حكاياتٍ كثيرة. حتّى أنقُلَ هذا العالم -وإنْ كانَ بنظري فحسب- إلى العالَمْ الآخر. عالَم الحكاية، حيث كلّ شيء، يكون حُرًّا. فاضلًا.
 

الآن، وكما في صغري، مؤمنٌ بأن الحكاية، إنقاذ لشيءٍ ما من الضياع. وما عزّزَ ذلك، أنَّني ما زلتُ أسمعُ مَن يقول "كأنّني أقرأُ نفسي"، فأعلم أن العالَم بخير. لأنَّ الحكَّاي أو الراوي يسعى بدوره إلى إنقاذِ شيءٍ ما مِن الفقدان. إيجادُنا لأنفسِنا في الحكايات آتٍ من القراءة، فالقراءة فعلٌ تحريري آخر يكادُ يوازي الكتابة. فكما أنَّ الكاتب يحفظُ شيئًا ما مِن الفناء، فإن القارئ بدوره يفعل ذلك. أن تقرأ يعني أن تجدَ نفسك، فإذا وجدْتَها، أمِنتَ مِن الضياع.
 

أن تكتب حكاية يعني أن تحرر جزءًا مِن هذا العالم. أن تكتبَ حكايةً يعني أن تسبقَ الموت، قبل أن يغمُرَ الزهرة، السماء، الورقة، العشب، المطر، الوطن، الحياة، وحتّى نفسَك. أن تكتبَ حكايةً، يعني أن تكون، ويكونَ ما كتبت. انطلاقًا مِن هذا.. أنا أكتب.
 

سيبقى حبّي للحكايات، كما أحب القهوة، وأحب الصباح، وكما يحب الناس المطر. إبقاءً على مقاصد الحكاية.. بأنْ يعبر عن الجمال بأعلى مستويات الأدب. وسأبقى دائمًا طفلًا .. أُفضِّلُ حكايةً على قطعة حلوى!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.