شعار قسم مدونات

مدينة الله

blog القدس
أقدم النقوش التي ورد فيها ذكر هذه المدينة موجود عندنا في المتحف المصري بالقاهرة، في مجموعة من اللوحات المكتوبة بالخط المسماري واللغة البابلية القديمة "لغة العراق القديم" تتخللها شروح باللغة الكنعانية "لغة فلسطين القديمة". هذه النقوش تسمى لوحات تل العمارنة، وهي عبارة عن وثائق دبلوماسية ترجع إلى عهد الفرعون أمنوفيس الثالث، عُثر عليها في أوائل القرن العشرين.

القدس اسم رافق المدينة منذ بداية تاريخها، عندما أقيمت فيها لأول مرة أماكن مقدسة خاصة ببعض العبادات القديمة، ذكره المؤرخ اليوناني هيرودوت مرتين في الجزء الثاني والثالث من تاريخه حين قال إنها مدينة كبيرة في الجزء "الفلسطيني" من الشام وسمّاها "قديتس"، لكننا نجد اسم أورشليم يتكرر في لغات أخرى، ولكنه ليس عبريًّا أصيلاً، فقد كانت تحمل هذا الاسم قبل دخول العبريين إليها بشهادة نصّ تل العمارنة، أما معنى "أورشليم" فمختلف فيه أيضا، وأرجح الآراء من الناحية العلمية أنها كلمة مركّبة من "أور" بمعنى مدينة و" شالم" وهو اسم إله وثني لسكان فلسطين الأصليين هو "إله السلامة" أو "إله السلام".
 

كانت القدس رمزًا، ولم يكن لليهود فيها وجود مستقل، وإنما زوايا ومعابد لطقوسهم، وعند دخول العرب القدس بعد الإسلام كانت خالية من اليهود منذ خمسمائة سنة

إن القدس ظلّت مدينة اليبوسيين الفلسطينيين الأصليين إلى السنة الثامنة من حكم داود، كما وجدنا أنّ المدينة كانت مقدّسة قبل داود بألف سنة، من أيام الملك الفلسطيني ملكيصدق، وذكر في العهد القديم حينما استقبل النبي إبراهيم والملوك الذين معه، والتمس منه الطعام والشراب وأن يباركه ببركة الله العليّ، ووجدنا أن فترة أواخر حكم داود وحكم سليمان وهي لا تعدو كلها ثلاثًا وسبعين سنة: 33 لداود و40 لسليمان وهي الفترة الوحيدة التي كانت المدينة فيها مركزا وعاصمة لليهود بقوة السلاح أولاً وبالمسالمة والدبلوماسية ثانيا.
 

وجدنا أنّه بمجرد موت سليمان تقلّصت سلطة القدس بأكثر من النصف، إذ كانت دولة إسرائيل في الشمال لا تعترف بداود ولا بسليمان ولا بخلفائهما، لا في الدين ولا في السياسة، حتى جاء الآشوريون والبابليون ووضعوا حدًّا لكل هذا.
 

ومنذ ذلك الوقت كانت القدس رمزًا، ولم يكن وجود اليهود فيها وجودًا مستقلًّا، لا سياسيًّا ولا اقتصاديًّا ولا دوليًّا، وإنما كانت لهم فيها زوايا ومعابد لطقوسهم، ووجدنا أن العرب عندما دخلوا القدس الشريف بعد الإسلام كانت المدينة خالية من اليهود منذ خمسمائة سنة أو أكثر ومن كل أثر سياسي أو ديني لهم إلا حائط المبكى أو كما يسميه اليهود "الجدار الغربي" الذي سمح لهم الإمبراطور الروماني إيليوس هدريان بالمجيء إليه يومًا واحدًا في السنة.
 

وذلك بعد محاصرته للقدس وهدم كل شيء في المدينة ولم يترك فيها يهوديًّا واحدًا، حتى ظهر الإسلام واستولت جيوش عمر بن الخطاب على القدس سنة 637 ميلادية، حيث كان زعماء المدينة ينتظرون خليفة المسلمين، ومعهم مشروع معاهدة يقتضي كل ما يريده العرب بشرط الإبقاء على الحرية الدينية للمسيحيين، واستمرار القرار الروماني القديم بمنع اليهود من النزول بالمدينة.

 

اليهود عند اللزوم يسكتون جميع الأصوات حتى صوت داود وسليمان وأصوات الأنبياء، حتى صوت التلمود

وقبل عمر بن الخطاب الشروط كلها إلا الشرط الأخير، معتذرًا بأن القرآن قد حدد ما لأهل الكتاب وما عليهم، وليس فيه شيء يسمح بذلك، ولكنه تعهد لمسيحيي القدس بألا يدخل أحد من اليهود إلى مقدساتهم أو يسكن في حاراتهم، وعلى مدى أكثر من ثلاثة عشر قرنًا كانت القدس تحت الإدارة الإسلامية "مدينة الله" بحق يجد فيها المسلم والمسيحي واليهودي صفاء النفس والسكينة الروحانية اللازمة للتأمل والعبادة.

ألف سنة قبل داود، وألف وخمسمائة سنة بعد داود، والقدس مدينة الله، بل داود نفسه لم يكن يسمّيها إلّا مدينة الله، واليهود يعرفون هذا جيدًا، ويعرفون أن التلمود كان يعتبرها مدينة مملوكة لله، ولذلك حرمت شريعته أن يمتلك فيها الإنسان بيتًا أو أرضًا أو بستانًا، أو أن يسكن أحدًا في بيته بأجر، ولكنهم عند اللزوم كثيرًا ما يسكتون جميع الأصوات حتى صوت داود وسليمان وأصوات الأنبياء، حتى صوت التلمود. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.