شعار قسم مدونات

مساكين في أرض الغنى

blogs-السودان
أرض الغنى! سلة الغذاء! وصف يبدو كأسطورة أصابها واقع اقتصادي منهار في مقتل.
 

اقتصاد يصدّر عملته على منصة العرض على كرسي مدولب، ليشمت بها الأخضر الأميركي المتباهي بنجوم يحصدها كلما زاد اهتراء الجنيه السوداني المسكين.
 

مسكين ذلك المغترب الراكض عابرا سنوات العمر ليعود فتتلقاه الضرائب لتبتلع شقاء سنين الغربة، وتلفظ له ذات الحفنة من الجنيهات المهترئة

ومسكين ذلك المواطن الكادح القابض بإحكام على جنيهاته كل شهر يجوب الشوارع باحثا عن سلعة تقبل هذا المهترئ ثمنا لها، وعبثا يبحث.
 

ومسكين ذلك المغترب الراكض عابرا سنوات العمر ليعود فتتلقاه الضرائب لتبتلع شقاء سنين الغربة، وتلفظ له ذات الحفنة من الجنيهات المهترئة.
 

ومسكين ذاك المستثمر المذهول من كم الجنيهات المحتشد طلبا لود عملته الصعبة.
 

ومسكين ذلك المسؤول المصرفي وهو يزاول عمله الإنساني في تطبيب أوجاع الجنيه المكلوم، وطمأنة أهله المفجوعين.
 

ومسكينة تلك الوزارة التي لا تملك سوى توديع تأبيني لسعر الصرف بعد كل مجزرة.
 

أمام كل هذا تفرد مجلدات من المسببات لا مدونة تتسع فقط لعناوينِ أبرزها على لسان كل مسكين.
 

فالمواطن يراها في سياسات الحكومة والفساد الذي ينخر أركان الدولة، والمستثمر يراها في غياب الرؤى وإهمال الفرص والإمكانات وقيود الاستثمار، والمسؤول المصرفي يراها في غياب المستثمر وهروب رؤوس الأموال وقلة المشاريع، والحكومة تراها في العقوبات والحروب والانقسام والخلافات السياسية.
 

وهنا تشير الأصابع العشرة -إن أردت- نحو المسببين، فكل من هؤلاء المساكين لديه متهم يرى فيه سبب نكسته، حينها وعند تأمل مشهد المسكنة بكل من فيه ستجد أن كلا يمسك بخناق الآخر ولن تستطيع أن تجرم أحدا وتُبرئ الآخر فكلهم صادق في وصفه.
 

والحقيقة أن كلا منهم عرى أفعال الآخر ولم ينتبه لعورة أفعاله.. لم يكلف أحدهم نفسه أن يبدأ بها، وأن يسأل نفسه هل قمت بما يجب قبل أن أطالب بما أريد؟
 

لا أتحدث عن من لا يستطيع أن يقدم شيئا فذلك المسكين الحقيقي الذي كلنا مسؤولون عنه، بل أقصد المواطن القادر على العطاء واختار أن ينتظر هبات الدولة، أو الذي يتمنى لو يجد مكانا بين الفاسدين لينهب خيراتها.
 

أقصد الدولة المنشغلة عن المواطن والتاركة إياه في مهب كدر العيش يدفع ضريبة الفساد.. من اختار أن يقصر.. من يبذل فقط لمصلحته.. من يهدم ليشيد قصره.. من يسرق ليضاعف ثروته.. من يطحن من حوله لتزداد سطوته.. من يقتل ليصنع مجده.
 

أقصد أن أناشد العدالة والأمانة والعزائم والوطنية والطيبة، أستنهضها فينا فما كنّا فاقديها يوما.
 

ليس حلما أفلاطونيا باحثا عن كمال الفضائل، ولا كلمات تسبح في فضاء السريالية، بل نداء لصحوة من كابوس يخيم على واقعنا، نستسلم له نياما ونصرخ خوفا بلا صوت، ونحن نراه يفرغ سلتنا، ويهري عملتنا، ويلقي بِنَا في غياهب الفقر، لتروي الأسطورة من وحي الكابوس قصة مساكين في أرض الغنى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.