شعار قسم مدونات

ومضات بشأن المسار الانتقالي في ليبيا منذ 2011

سنوسي
انتقلت ليبيا من وضع حكم الفرد إلى المناخ الديمقراطي والحريات العامة بعد ثورة فبراير 2011، ولا يمكن أن يشكك في ذلك أحد.
 

فقد تشكلت الأحزاب التي كان يحكم على مؤسسيها بالإعدام وفق قانون 72 الشهير، وانتشرت الجمعيات الأهلية ومراكز البحوث وانطلقت الحناجر والأقلام تنتقد بلا قيد وتعبر بلا خوف.
 

وصار في ليبيا ما يزيد على عشر محطات فضائية خاصة بعد أن كانت محتكرة للدولة، وعشرات الإذاعات المسموعة وعدد لا يحد من الصحف والمجلات والنشرات.

أخطر إفرازات التجربة الديمقراطية الوليدة تأجج الصراع تحت قبة المؤتمر الوطني وخارجه بين التيارات السياسية

وبقدر ما كانت الحريات نعمة حيث فجرت الطاقات وكشفت عن المواهب وأفسحت المجال للإبداع بقدر ما كانت نقمة من جهة التشويش على المسار الانتقالي وتلويث المناخ الديمقراطي والنفخ في الأدواء والأمراض التي يعاني منها المجتمع والتي تراكمت خلال عقود الدكتاتورية.
 

كان مشهد أول انتخابات برلمانية (انتخابات المؤتمر الوطني العام) في البلاد منذ ما يزيد على خمسين عاما مهيبا، كلله تقاطر قطاع واسع من الليبيين على مراكز الاقتراع وهم مزهوون وفرحون كونهم يخطون خطوة أساسية باتجاه البناء.

لكن سرعان ما خابت آمالهم بسبب الأداء السيئ لأول برلمان منتخب بعد الثورة، والكثير من أسباب ضعف الأداء تعود إلى توجهات البرلمان والصراعات التي دارت فيه، ومواقف وممارسات الكثير من أعضائه والتي كانت صادمة للرأي العام. 

كان من أخطر إفرازات التجربة الديمقراطية الوليدة هو تأجج الصراع تحت قبة المؤتمر الوطني وخارجه بين التيارات السياسية على أساس أيديولوجي وفكري (إسلامي ليبرالي)، وبروز وتعاظم النزوع الجهوي والقبلي، وتضخم دور ونفوذ المجموعات المسلحة بالشكل الذي وضع كما هائلا من العراقيل أمام الانتقال الديمقراطي، وانحرف بالتجربة إلى منعطف حاد ومنزلق خطير قاد إلى الوضع المتردي الراهن.
 

نجح المعارضون للمؤتمر الوطني في إرغامه على الدعوة لانتخابات برلمانية جديدة، وأدى عزوف شريحة واسعة من الليبيين وردة الفعل تجاه الإسلاميين كونهم في نظر قطاع كبير من الرأي العام من أكبر أسباب تعثر المرحلة الانتقالية الأولى إلى تشكل برلمان يمثل اتجاها سياسيا واحدا تقريبا.

والحنين إلى حكم العسكر وسلطة الفرد، وهو ما يفسر تأييد أغلبية الليبيين الفريق خليفة حفتر

من ناحية أخرى، أدى تفجر الصراع المسلح في البلاد بين عملية الكرامة وأنصارها، وعملية فجر ليبيا ومن أيدها إلى انقسام سياسي خطير مهد له بعض أنصار المؤتمر الوطني، وعززه البرلمان بانحيازه لأحد طرفي الصراع بدل أن يكون مظلة جامعة والبديل لاحتواء النزاع المسلح وفرض الحوار ووأد الفتنة.

كان أداء البرلمان مخيبا للآمال أيضا، وكانت ردة فعل من ناصروه مطابقة لمن عارضوه، ونعتقد أن فشل الجسمين التشريعيين وما انبثق عنهما من حكومات ساهم بدرجة كبيرة في شك قطاع واسع من الليبيين في جدوى الديمقراطية والتعددية، والحنين إلى حكم العسكر وسلطة الفرد، وهو ما يفسر تأييد أغلبية الليبيين الفريق خليفة حفتر من دون الالتفات إلى تاريخه أو التأكد من قدرته على أن يخرج البلاد من مأزقها الحالي.
 

الانقسام السياسي وما صاحبه من تداعيات خطيرة -منها توقف إنتاج وتصدير نحو ثلثي الطاقة الإنتاجية والتصديرية للنفط الليبي المصدر الرئيس للدخل، واشتداد الصراع المسلح في الشرق والغرب- أوصل البلاد إلى وضع أمني خطير وأزمة اقتصادية حادة جدا، من أبرز مظاهرها النقص الشديد في السيولة بالمصارف وارتفاع الأسعار جراء انهيار الدينار الليبي أمام العملات الصعبة، وانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة يوميا في أغلب المدن الليبية.

الومضة الأخيرة في المسار الانتقالي كانت بالتوقيع على الاتفاق السياسي بين الأطراف المتصارعة في الشرق والغرب، إلا إنه وبسبب عدم رضا مجاميع فاعلة ضمن طرفي الصراع فقد بدا الاتفاق هشا، حيث لم يتمكن المجلس الرئاسي -الذي هو أعلى سلطة في البلاد حسب الاتفاق السياسي- من تقديم ما يخفف معاناة المواطنين، بل إن الأزمات المشار إليها تفاقمت مع استلام المجلس الرئاسي السلطة في العاصمة طرابلس منتصف مارس/آذار الماضي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.