شعار قسم مدونات

شرقيات

شرقيات

قديما، قال الفيلسوف الهولندي إسبينوزا "إذا وقعت واقعة عظيمة لا تضحك ولا تبك.. ولكن فكّر". 

وما أكثر الوقائع الكبيرة التي حدثت خلال الأعوام الخمسة الماضية، وأسرتنا في سياجها، حتى أفقت يوما ولا حديث أتحدث فيه إلا وهو من وحيها أو في أطرافها.

ثقلت نفسي من ذلك حتى زهدت في الحديث زهدا جعلني أتأخر عن الاستجابة لأي دعوة تصلني للكتابة، فأي عنوان يمكن أن يكون مناسبا في مثل هذا الوقت، وأي كلام ستكون له قيمة، كأنه لا ينبغي أن نكتب إلا ما له قيمة! ثم يعود الصمت هو الملاذ.. ومن طال صمته ضجّ، كمن كثر كلامه.
 

عاد لي حنين إلى الحكاية والحديث، صادف هذه الدعوة من مدونات الجزيرة التي أشرُف بالكتابة فيها، وبقي السؤال: عن أي شيء أكتب؟ 
 

لعل في كلا العالمين -عالمنا وعالم الخيام- قربا من الجنون؛ بل لعل الأصل في هذا العالم هو الجنون

صباح الخميس، وفي أعقاب أحداث نيس الفرنسية، كتبت لصديقة تستعد للسفر إلى أوروبا "كوني على حذر فهذا العالم مجنون".. مساء الجمعة وفي أعقاب محاولة الانقلاب التركية، أجابت بمثل ذلك "كن على حذر فهذا العالم مجنون".. والآن وأنا أكتب هذه التدوينة، يخطر لي أن أكتب نفس العبارة لصديق في ألمانيا!

ماذا يفعل المرء في عالم مجنون كهذا سوى أن يتمثل ساخرا قول عمر الخيام "فاغنم من الحاضر لذاته.. فليس في طبع الليالي الأمان".

تذكرت الرباعيات فعدت أبحث عن الخيام في زمانه، ولم أكن قد اقتربت منه من قبل، إلا بما يشتهر من لحن رياض السنباطي فيما غنته أم كلثوم، أو بما حكاه أمين معلوف في "سمرقند". ولعل في كلا العالمين -عالمنا وعالم الخيام- قربا من الجنون؛ بل لعل الأصل في هذا العالم هو الجنون، إذ عاش الخيام في القرن الخامس الهجري، وصادف حكم السلاجقة في بلاد فارس، وحكم السلاجقة كان في أواخر عهد الدولة العباسية، شهد زمانه حملتين صليبيتين.
 

وإن شئنا الاقتراب أكثر من عالمه، فالفاطميون في مصر، ويوسف بن تاشفين يعلو نجمه في المغرب وبلاد الأندلس، وحسن الصباح استوت جماعته في جبال آلموت.

أما معاصروه فمنهم الإمام الغزالي صاحب الإحياء، ومنهم الشهرستاني أبو الفتح، أحد علماء الأشاعرة في زمانه. والثابت أن للخيام رحلة حج زار خلالها بغداد، إلا أن بعض مؤرخي عصره يعتبرون أن حجه كان "تقية" ليرد الكلام الذي ثار عن دينه وعقيدته.

وما أضحكَ هذه العلة في الحقيقة، إذ تكاد تلمس فيها حرصا ممن دون سيرته على أن يقطع بفساد دينه، فحين وصل في هذه السيرة إلى رحلة الحج، لم يقتنع بها فقطع بأنها "اتقاء كلام الناس"، وحين ننظر في زمان الخيام لا نرى سببا لأن يتقي أهل زمانه برحلة ستأخذ منه جهدا ومشقة، ولا حاجة له فيها.

فلم يؤثر مثلا عن ابن سينا -وهو أسبق منه بقليل- أنه حج، لا تقية ولا طاعة، ولا نعرف إن كان ذلك كسلا أو لعدم موافاة الظروف له، خصوصا أن ابن سينا مات صغيرا نسبيا، وجدير بالقول إنه لم يؤثر عنه إنكار لهذا الركن من الإسلام.

ولأني مهتم بالبحث في سير الغابرين، فلندع المحاكمات إذ لا يقدر عليها إلا من له إحاطة بالعلم، ونحن نعجز عن الإحاطة بما نعاصر فكيف بما انقضى منذ زمن.

لم نعرف الخيام في عالمنا العربي المعاصر إلا بعد أن كشفه لنا المستشرقون، واشتهرت رباعياته المترجمة في أوروبا شهرة لفتت إليها نظر المثقفين العرب.

كانت الترجمة الأولى لرباعيات الخيام للشاعر الإنجليزي فتزجيرالد عام ١٨٥٩، ويرى الباحث والمترجم الإيراني كاظم کاظم برك في دراسة عن الخيام صدرت عام ٢٠٠٩، أن خيام فتزجيرالد إنما هو نسخة ضمن الرؤية الأوروبية التي تتناسب مع القرن التاسع عشر، خصوصا في موضوعي السعادة والحرية والفردية، غير أن كاظم يرى أن الرباعيات لم تفهم على وجهها الصحيح، وأن تصوير الخيام ملحدا غير عابئ بشيء إلا الخمر والهوى بعيد تماما عن الصحة.
 

والحق أن مثل هذه الشخصيات التي استهوت الأوروبيين من تراثنا، خصوصا في تلك الفترة، إنما استهوتهم لا لتمثيلها الشرق على حقيقته، بل لتقاطعها مع رؤية خاصة كانت رائجة في تلك الأيام، فإن اختصرنا رؤيتنا لتراثنا من هذه الزاوية، رأينا عالمنا بعين أجنبية، وكثيرا ما خسرنا قيمة كامنة في تراثنا الشرقي، لقراءتنا إياه وفق المنهج الغربي وحده.

فما ولد في الشرق، جدير أن ينقب عنه بروح الشرق.

ومن المألوف في ذلك الزمان تدليس بعض النساخ على مخطوطات بعض ذوي الشهرة من الرجال.

تقول الأسطورة، إن الخيام صعد الجبل يوما بإبريق خمره، يرقب النجوم من حيث هو فلكي، ويرقب الأنس من حيث هو قلب مخلص للحب والجمال، فكسرت الرياح إبريقه وأراقت خمره، فأنشد في سكرته أبياتا يعاتب فيها الله جل وعلا -وحاشاه- أن كسر له إبريق خمرته، فاسودّ وجهه، ففزعت جاريته، وقالت له: قد اسود وجهك مما قلت، وناولته المرآة فرأى فيها وجهه مسودا فعاد ينشد ما معناه:

أي: يارب، أذنبت ذنبا وأي إنسان لم يذنب ذنوبا.. أنا أعمل سوءا وأنت تجازيني به، فأي فرق بيني وبينك؟

فعاد وجهه كما كان.

ويظهر من بناء الحكاية أنها عصيّة على الحدوث، ولأن أقدم مخطوطة وجدت فيها نصوص الرباعيات دونت بعد وفاة الخيام بثلاثة قرون كاملة، ولأن النسخ اللاحقة لها تزيد باطراد عدد أبياتها مع تقدم الزمن، مما حمل مؤرخي الأدب على افتراض أن القرون الثلاثة أيضا قد ضاعفت حجم الرباعيات مرة أو مرتين، خصوصا وقد احترقت نيسابور بعد وفاة الخيام وفقدت أصول المخطوط مبكرا ولم يبق إلا ما حفظته ذاكرة الحفاظ، والمدلسين. وعليه ينبغي ألا نأخذ كل منسوب له على محمل التصديق الكامل، ومن المألوف في ذلك الزمان تدليس بعض النساخ على مخطوطات بعض ذوي الشهرة من الرجال.

ولد الخيام في نيسابور، وكانت إحدى ثلاث مدن عدها ياقوت الحموي أعظم مدن زمانه، فهي باب الشرق، ودمشق باب الغرب، والموصل ثالثة المدن إذ لا يقصد المدينتين أحد إلا مر بها. 
 

عرف في زمانه فلكيا ورياضيا كما عرف شاعرا حكيما، لقب بحجة الحق، وهو لقب حازه من قبله ابن سينا، وتراوح شعره بين الأنس والبحث عن أسرار الخلق وماهية العالم، ومما قال فيما معناه:

"ليس العقل من السعة لإدراكك، أنا لا أفكر إلا في مناجاتك.. أنا لا أعرف ذاتك حق المعرفة، ولا يعرف ذاتك إلا ذاتك".
 

زخارف الدنيا أساس الألم وطالب الدنيا نديم الندم
فكن خليّ البال من أمرها فكل ما فيها شقاء وهم
 

ونختم بقوله:

وإن توافِ العشب عند الغدير وقد كسا الأرض بساطا نضير
فامش الهوينا فوقه إنه غذته أوصال حبيب طرير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.