شعار قسم مدونات

العالم بعيني غراب أعصم

العالم بعيني غراب أعصم
في رواية "أطفال السبيل"، يسرد "طاهر الزهراني" بعيني غراب أعصم كيف يبدو العالم من فوق، في افتتاحية تلبث في الذاكرة طويلا.
 

ينفض الغراب جناحيه ويعلو ناعقا، يجول ببصره الراداري ماسحا أحياء جدة، مرافقا القوافل البشرية في غدوّها ورواحها، منعطفا مع الأزقة الملتوية بحدة تشبهها، ومأسورا بتفاصيل المدينة الموبوءة والأحياء الشعبية المهملة يراقب الأطفال وهم يجرون كالمجاذيب باستهتار سيفقدونه لاحقا على أعتاب الرجولة.
 

وإذا كان "دانيال بناك" مدينا "لماركيز" بالفضل بسبب افتتاحية "مئة عام من العزلة"، والتي أكسبته العادة الجميلة بحفظ المقاطع الأولى من كل رواية أعجبته، فيمكن لكل منا أن يكون مدينا لكاتب ما مثل ماركيز وطاهر. 
 

كشعوب لنا كل الحق في الاجتهاد والخطأ والتعثر في الطريق للصواب مثل كل أمم الأرض

ظلّ الغراب في المخيال الشعبي رمزا للتشاؤم، وشاهدا على الطوفان والخراب، واستعارتُه لرصد العالم من الأعلى قد تكون خيار من ارتضى النظر للعالم بتشاؤمية، ربما كان معه الحق فيها وهو يرى العالم وكيف يسوء يوما بعد يوم، متدحرجا فوق مشاكله ككرة تكبر وتتجه للهاوية. 
 

أعظم الخيبات هي تلك التي تأتي بعد الآمال الكبيرة، حين يخضرّ المدى في أعين الشعوب، وتزدان الآفاق بأحلام الحرية والكرامة قبل أن يُعاث بها وتذروها الرياح، ومنذ بداية الربيع العربي -وقبله وبعده- وآمالنا المشرقية تُغتال بصلف، ومحاولات الشعوب العربية لامتلاك زمام أمرها تقابل بعناد عالمي، واجتهاداتها الديمقراطية يرحب بها ما لم تنتخب "حماس"، بدون اعتبار لأننا كشعوب لنا كل الحق في الاجتهاد والخطأ والتعثر في الطريق للصواب مثل كل أمم الأرض، وهذه ليست لغة بكائية، فكل الشعوب خاضت معاركها الخاصة وابتلعت آلامها في طريقها للتحرر، لكنها محاولة لتوصيف الواقع الحالي كما هو.
 

وعودا للغراب، فما الذي يمكن أن يراه لو أنه حلّق فوق العالم اليوم؟

ماذا غير بيت البردوني "ماذا أحدّث عن صنعاءَ يا ولدي .. مدينةٌ عاشقاها السلُّ والجربُ"؟، وصدى لأبي الطيب يتردد في الوهاد "وكم ذا بمصر من المضحكات .. ولكنه ضحكٌ كالبكا"؟ 
 

سوف يرى الغراب في سوريا ثورة المتروكين، والرجال وهم يدفعون تحت عين الشمس شذاذ الآفاق الذين ازدحم ببغيهم البر والجو. سيرى فلسطين والعراق، أول وآخر الجراح .. وسيرى أيضا داعش وترامب، وسيرى كل ما لم يعد الحديث عنه ترفا كالتلوث وآثار الاحتباس الحراري. 
 

الأقدار مكتوبة في طيف واسع بين الخير والشر، والحق والباطل

لكن الغراب أيضا كان مبعوث الله للإنسان ليعلمه كيف يدفن خيباته ويمضي، لأن الأقدار مكتوبة في طيف واسع بين الخير والشر، والحق والباطل، والأمن والخوف، وهنا تكمن التجربة البشرية، ومهمة الإنسان في أن يؤدي واجب الاستخلاف ليس بأن يكون على حق دائما، بل أن يمتلك شجاعة العودة من منعطف الأخطاء. 
 

الحياة ليست اضطرابا مسترسلا، ولا دعة تامة.. الحياة هي الحياة، مسرح ولاعبون بتعبير "شكسبير"، ودراما من كوميديا وتراجيديا كما يرى "بيغوفيتش"، وفي الوجدان الديني ميدان للالتحام يبدأ في النفس وينتهي في ساحات الدنيا.
 

لو مرَّ الغراب قبل أيام بإسطنبول لوجد معكوس ما رآه في أماكن أخرى، بلدا على وشك الانفلات استرجعه بنوه بأيديهم وأسنانهم من حافة الظلمات، في مشهد خالد محا خيبات طازجة، وسيظل قوتا لكل أحرار العالم لأعمار ستأتي.
 

إن الغراب وهو يمر فوق العالم يمر فوق حكاياتنا وقصصنا التي سنحكيها يوما ما لمن لم يعشها. سنخبرهم أننا عشنا هذا كله، سنتمنى أن لا تبتلع الآلة الإنسان وقتها كي يبقى فضل وقت نحكي لهم فيه كيف سقطت قلوبنا ترحا، وارتفعت فرحا، سنخبرهم بكل هذا وبكل التفاصيل التي كانت سُتنسى، واستطاع الغراب أن يسجلها في مروره الأبدي فوق العالم. 
 

"لا ليلَ يكفينا لنحلمَ مرتين.

أنا أنتَ في الكلمات. يجمعنا كتاب

واحدٌ. لي ما عليك من الرماد، ولم

نكن في الظلّ إلا شاهدين ضحيتين

قصيدتين

قصيرتين

عن الطبيعةِ، ريثما ينهي وليمتَهُ الخرابُ.

 

ويضيئكَ القرآنُ:

(فبعثَ اللهُ غرابا يبحثُ في الأرض ليُريَه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب)

ويضيئكَ القرآنُ،
 

فابحث عن قيامتنا، وحلّق يا غرابُ" – درويش

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.