شعار قسم مدونات

ليلة تفوق فيها الأتراك على المصريين

blogs-snwar

نظرت الشعوب العربية على الدوام إلى تجربة حزب العدالة والتنمية التركي، على أنها نموذج فريد للنهضة والتحرر من القبضة العسكرية والعلمانية المتطرفة، كما رآها آخرون ملهمة لتيار الإسلام السياسي العربي.
 

وبهذا النفَس، لم تنم العواصم العربية ليلة 15 يوليو/تموز، وهي تتابع بترقب وإعجاب أخبار انحسار الانقلاب. وما إن هدأ المشهد الساخن، وبدا أن القيادة التركية استطاعت صد الانقلاب، حتى انفتحت شهية النشطاء وبعض أوساط النخب إلى عقد المقارنات بين مشهدي "نجاح الانقلاب في مصر قبل 3 سنوات، وبين إفشاله في تركيا خلال 3 ساعات" – كما علق مذيع عربي في إحدى النشرات –
 

ولئن كان من الطبيعي استحضار المقارنة بين مشهدي انقلاب ناجح وآخر فاشل لا يفصل بينهما الكثير من أبعاد الزمان والمكان، إلا أن البعض قد وقع في فخ التفسيرات والمقارنات السطحية من قبيل استدعاء مقولات تاريخية تمجّد من شعب، وتحطّ من قدر شعب آخر، وبدا أن بعض المتفاعلين العرب تجاوزوا جوهر الدروس المستفادة من انتصار الديمقراطية التركي، إلى المفاضلة بين شعبين وتجربتين.
 

وبمسح سريع، ابتعدت الكثير من التفاعلات والتحليلات للحدث التركي عن إدراك جملة من الحقائق والموروثات السياسية والاجتماعية التي ساهمت دون شك في تجنيب تركيا الوقوع في فخ الانقلاب، بينما لم تكن هذه المكتسبات ولا الظروف الواقعية والتاريخية متشابهة في مصر.. وأبرز هذه الفروقات الحاسمة هي:
 

أولاً: الموروث الديمقراطي
 

تعيش تركيا منذ عقود حالة ديمقراطية صحية إلى حد معقول، فهناك دولة مؤسسات وانتخابات منذ عام 1923، وتعددية حزبية منذ عام 1946، ولئن كانت البلاد قد عاشت 4 انقلابات خشنة وناعمة إلا أن الشعب يعرف أن انتخاباته لا تزوّر، وأن حظر الأحزاب لا يمنع إعادة هيكلتها ومشاركتها بالعملية السياسية تحت إطار جديد.

هذا الموروث الديمقراطي إلى جانب النهضة الاقتصادية في ظل حكومات الاستقرار (الحزب الواحد)، اعتبره كل فرد في المجتمع مكتسباً شخصياً، ساهم في تشكيل وعيه وثقته بالدولة وبالعملية الديمقراطية ككل، وهو موروث لم يُبنى في ليلة وضحاها، بل دفعت الديمقراطية التركية ثمنه 4 انقلابات قبل أن تستطيع صد الانقلاب الخامس.
 

وعلى الجانب المصري يبدو هذا الموروث مفتقدا تماماً في ظل غياب دولة المؤسسات، وهيمنة العصابات ورجال المخابرات والأعمال على مفاصل الدولة منذ تأسيسها، إلى جانب تشوش مفهوم الديمقراطية في أذهان الناس، وعدم ثقتهم بأن خيار الصندوق سيجلب لهم الأمن والعدالة الاجتماعية.
 

ثانياً: صد المخابرات والشرطة وقطاعات هامة من الجيش للانقلاب
 

صرح الرئيس أردوغان بأنه قد علم من صهره بوجود محاولة انقلابية قبل ساعات من حدوثها، وأن جهاز المخابرات أكّد له ذلك، وتحدثت تسريبات رسمية عن دور حاسم لقائد الجيش الأول أوميت دوندار أيضاً في كشف المخطط الانقلابي مما جنّب الرئيس محاولة اغتيال بقصف الفندق الذي يقيم فيه.
 

وكان للشرطة ولجهاز المخابرات، الذي يعدّ قائده الذراع اليمنى لأردوغان، دور حاسم في السيطرة على طائرات الانقلابيين والاشتباك بالأسلحة الخفيفة والثقيلة معهم، ووقف تحركهم في المطارات، وطردهم من كثير من المراكز والمرافق الحساسة كمبنى المخابرات، والتلفزيون الرسمي، وغيرها.
 

وقد استطاع حزب العدالة والتنمية خلال 13 عاما من حكمه إدخال جملة من القوانين والتغييرات الدستورية التي سمحت بتسليح عناصر جهاز المخابرات، وتدريبهم على المهارات القتالية، ليكون كامل الولاء للحكومة والرئاسة ويخلق التوازن مع مؤسسة الجيش التي لم يستطع الحزب تحييدها تماماً وضمان ولائها.
 

هذه العناصر الثلاثة: المخابرات، الشرطة، وبعض قطاعات الجيش هي من حسمت عملية التصدي للانقلاب ودحره، ولولاها لتغيرت نتيجة المشهد تماماً. بينما كانت هذه القطاعات بأكملها متواطئة ضد الحكومة والرئيس في مصر، وكان من شبه المستحيل تحييدها أو كسب ولائها خلال عام واحد.
 

ثالثاً: وجود قيادة ذات خبرة وجّهت الجمهور
 

توّجت مكالمة الرئيس أردوغان عبر "سي إن إن" التركية المشهد لصالح الديمقراطية، حين ظهر أن الرئيس بصحة جيدة، رابط الجأش وواثق، ويدعو شعبه للنزول إلى الشارع عبر توجيه واضح منه، مما زاد ثقة الناس وإقبالهم على الميادين وشجاعتهم في مواجهة الدبابات.
 

سلامة الرئيس، قيادته للمشهد، توجيهه المستمر للناس عبر الشاشات ورسائل SMS، وخبرته الطويلة في العمل السياسي، ووجود جهازي المخابرات والشرطة إلى جانبه، وعدم اصطفاف كامل الجيش في صفّ الانقلابيين؛ كانت العوامل الحاسمة التي أفشلت الانقلاب، فيما وضعت مشاهد الوعي الشعبي والرزانة الإعلامية لمساتها التجميلية على المشهد.
 

أما على الجانب الآخر، فلم تنجح الحكومة والرئاسة في مصر بتأمين مرسي، وعاشت مصر حالة فراغ قيادي أدّى إلى تخبّط الشعب، وتوجيهه نحو التظاهر في ميدان معزول وغير مؤثر مما سهل انقضاض المعارضة والإعلام التابع للجيش على المشهد.
 

أخيرًا
 

تزخر تجربة صدّ الانقلاب في تركيا بالعديد من المواقف والعبر التي يمكن استشرافها، بعيدا عن المقارنات غير الموضوعية، أو استحضار التعميمات العرقية والقومية لتفسير الأحداث، وبعيدا أيضاً عن التفسيرات "الكرنفالية/الاحتفالية" التي صبغت عموم التناول العربي للحدث، فبينما كان قطبي المعادلة على الأرض وفي الإعلام التركي هما "الديمقراطية مقابل العسكر"، كانت نخب ووسائل إعلامية تعرّف المشهد بأنها "انتصار أردوغان".
 

وبينما حسمت المخابرات والشرطة المعركة عسكرياً ضد الانقلابيين، زخرت المتابعات العربية بتعليقات من قبيل "هزيمة الانقلاب بالحب، وبالصدر العاري".
 

حري اليوم بالنخب العربية أن تضع حاجزا بينها وبين التناول "الكرنفالي" للأحداث، سعياً وراء دغدغة الجمهور، في عصر يُقاس به التأثير عبر حصد الأرقام في مؤشرات مواقع التواصل، ومطلوب منها أيضاً أن تقدّم خطاباً يرفع ثقة المواطن العربي بنفسه، وبما لديه من إمكانات فجّرها خلال انتفاضات "الربيع العربي"، حتى لا تُهدر إمكاناته من جديد على يد قيادات عاجزة ونخب مأزومة.
 

ما أحوجنا اليوم إلى خطاب يساعد في استثمار وتطوير ما بين أيدينا من فرص وقدرات، بدلاً من خطاب الهزيمة النفسية، أو التجمّد في مشاهد الحسرة والتقريع على وهم ما يفتقده المواطن العربي ويمتلكه مواطنو العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.