شعار قسم مدونات

عش الحياة، لا تعبُرْها!

blogs - Read - Thoughts
كتبَتْ الدكتورة رضوى عاشور، في آخرِ كتُبها، جملةً خاتمةً تقول: "هناك احتمالٌ آخر لتتْويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دُمنا قرّرنا أنّنا لن نموت قبلَ أن نحاولَ أن نحيا". فيحضُرُني صوتُ محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة"، أكرّرُ الجملة، أعيدُ قراءة القصيدة. ثمّ أفكّر: إيمانُنا بأنّ على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة، يضطرُّنا للإيمانِ بأنَّ عليها ما يستحقُّ الموتَ أيضًا! يتشوّشُ عقلي، فأمحو الفكرة.

أشغلُ نفسي، أراوغُ عقلي، لكنّه يأبى، يعودُ ليفكّر، في أي شيء، المهم أن يفكّر. أتذكّرُ بعضَ الكتب، تمرُّ بي "القوقعة"، أحاولُ تغيير الموضوع، لا استجابة، أتمنّع، لا فائدة. أُسلمُ نفسي وأبدأ بالتذكُّر، يأتيني صوتٌ بعيد، مِن أقاصي ظلماتٍ حالكة، أسمعُه يقول: "وأنا يا لينا.. أحملُ مقبرةً كبيرةً في داخلي".

أنتظرُ خبرًا بلا دماء، تراجيديا مصفّاةً. أعثرُ عليه، أرفع الصوت، وأرفعُ سارية الأمل بفجرٍ جديد، اجتماعات، مؤتمرات، بيانات، خطابات. فتحضُرني نماذجُ تاريخيّة فاشلة كثيرة من هذا النوع

يا الله، أشعر أنَّ العالم مليءٌ بالقهر، أحاولُ الفكاكَ، مرةً، فاثنتين، أنجح. أعودُ إلى ذاتي، أستغربُ أنّني عدتُ إلى ذاتي، العودة تعني سبْقَها بفراق! نعم، إنه الانعتاق، تمرُّ بي "تلك العتمة الباهرة" وأتذكّر الطاهر بنجلّون وهو يشرح فكرة الانعتاق. لماذا أدب السجون! ينتقلُ تفكيري نحو "السجينة"، أضحكُ من سخرية القدر. ماذا يمثّل الوطن لكلّ هؤلاء! أتملّصُ خفيةً من عقلي، وأغدُرُه بالتفكير في شيءٍ جميل. تبدأ فيروز تغنّي في عقلي وأنا أعانقُ السماء. تحضُرني قصيدةٌ لابن الفارض، ثم أخرى لابن عبد ربه، أتبسّم، وأحسبُني زهرةً أو قطعةَ غيم.

أُمسكُ رأسي، فأشعرُه ينزلقْ. أفتحُ التلفاز -فأكون مجبورًا على حضور الواقع، لا أقدّمُ أو أؤخّر- تظهرُ مباشرةً قنوات الأخبار في وجهي، أقول: الحمد لله، هذا سيريحُني. ثمَّ تبدأُ تراجيديا العرب، وللأسف دونَ فصلٍ هزليّ خلالها. لكنّني أشكرُ الله على حذف -أو عدم وجود- الفصلِ الهزليّ من مسرحيّتنا، الذي كان سيساهمُ ربّما بتوضيح التراجيديا أكثر، بسبب المفارقة الصارخة التي لم نعتَدْها، إذ أنَّ الأضداد كلّما اقتربوا بان اختلافُهم.

أنتظرُ خبرًا بلا دماء، تراجيديا مصفّاةً. أعثرُ عليه، أرفع الصوت، وأرفعُ سارية الأمل بفجرٍ جديد، اجتماعات، مؤتمرات، بيانات، خطابات. فتحضُرني نماذجُ تاريخيّة فاشلة كثيرة من هذا النوع، يتمثّلُ لي ميلان كونديرا وهو يقول في "المَزحة": "المستقبلُ سبقَ أن حدثَ، ولن يقوم بالنسبة إليهم إلا بتكرار نفسه". أقهقِه مع نفسي، وأقول: ليتَ قومي يعلمون. ثمّ أستدرك: ما الذي جعل هذا الساخر الخبيث كونديرا يخطرُ الآن! معناه أنني عدتُ أفكر! يا ربّي ألهمني صبرًا.

أُطفئُ التلفاز، أو (الرائي) كما حاولَ تعريبَه العرب. لكنّني لا أبالي، أيًّا كان الاسم، أسمّيه تلفازًا وألعنُ العولمة. أعقدُ هدنةً مع أفكاري، ثمّ نتيه، أنا وهي، نبدأ بالدوران. أطرقُ باب الهويّة، أسألُها عن الانتماء. أفكّر. يأتيني أمين معلوف، أرحّبُ به، وأُخطرُه بأسئلتي، ثمّ يبدأ شرح بعض فِكَره من "الهويات القاتلة". أشكره، ثمّ ينصرف.

كيف ذلك! يبدو أنَّ الأمر يزدادُ رمزيةً -رغم أنّني لا أحب هذه الكلمة، لكن للتفلسُف أحكام. أمين معلوف تجلّى أمامي! أتذكّر روائي الرمزيّة المعاصر إبراهيم نصر الله، أتلفّتُ حولي فزِعًا، خوفَ أن يكون هناك آخر! فنكونَ "مجرّد 2 فقط". لا أحد. هذا أفضل. أجولُ في المكان، أدورُ، أضيعُ، أتوهُ.

عندما تَتِيه، تبدأُ بالدوران حولَ نفسك. تتلاشى نقطَةُ البداية. تنسى نفسَك. تتَهاوى. تُمْحى. ثمّ تصبحُ كلُّ النّقاط، نقاطَ بدايةٍ. ثمَّ تختفي. على غفلةٍ، أكون درويشًا صوفيًّا، ثمّ من سعادة التجربة، أبدأُ بالدوران، أُنشدُ من المثنوي، أضحك، يا الله ما هذه الصدف! يحضُرُني جلال الدين الرومي، يربّتُ على كتفي ثمّ ينصرف، أضحك ثانيةً، هذا عالمٌ غريب، الإنسان كائنٌ مضحك. أبتعدُ راكضًا وأنا أضحك، وأضحك لأنّني أضحك. أجدُني أركض، أمامي معطفٌ يركض! صحيحٌ، غوغول هنا في مكانٍ ما لا شكّ . ألهثُ من التعب! هل سيسمّونني عدّاء المعطف الهارب! لم أكُن أعدو خلف طائرة ورقيّة، يا للأسى . دقيقة، كيف أنا الذي يركضُ خلفَ المعطف؟ إنّها خدعة! عندما فهمتُ أنّه استدرجَني كان قد فاتَ الأوان، توقّف وانقضَّ على ردائي الأبيض، وانتزعه، لكن مهلًا يا عزيزي السيد معطف، قطعةُ القماش البيضاء هذه لن تقيكَ برد روسيا! إذًا هكذا تقول، فهمت، فهمت، للرمزية أحكام. مسكينٌ السيد معطف.

أُغمضُ، أُبصرُ. أجد نفسي في ساحةِ الرملة في غرناطة، الكتبُ تحتضر، تحترق، ترتفعُ إلى السماء، تشكو بني آدم، أبكي. ويبكي الناسُ بكاءَ الكتب. أبتعدُ عن الضجيج، أجد نفسي في الصحراء، وقبل أن أفهم أدرك أنني في صحراء إبراهيم الكوني، يا الله كم هي جميلةٌ هذه الفاتنة السيدة صحراء. ربما أكونُ (أسوَف) من "نزيف الحجر". أكونُ نديمَ الوحدة، والعزلةِ عن بني آدم المجرمين، أحاولُ تطهيرَ روحي. أجرجرُ نفسي، فأرى حجّي جابر يحكي عن الحكايات في "لعبة المغزل". يا الله ما أعذب الكلام، أدركتُه وهو يقول: "كلّ الحكائين إنّما يغرفون من ذواتِهم بشكلٍ أو بآخر".

أنتحي جانبًا. أجدُني خلفَ بابٍ في مبنًى رثّ، أشاهد راسكولنيكوف وهو يقتلُ المرابية في "الجريمة والعقاب" أتجنّب التفكير في أي شيء. مهلًا، لماذا أتيتِ بي إلى هنا؟ نحنُ لم نتّفقْ على هذا أيتها الأفكار! تحاولُ أفكاري جَرّي نحو الكلاسيكيات الأجنبية، لن أقعَ في هذا الفخّ. هل ستترُكينني الآن؟ لكن لماذا؟ مهلًا لم نصِل بعد للشعر الحر، ولا الكثير من الروائيين العظماء، هذا إجحاف، تخيّلي حتّى أنّنا نسينا نجيب محفوظ، هل أنتِ راضية! نسينا الكثير من الكتّاب، والموسيقيّين، ولم نمرَّ مرورًا حتّى على الرسّامين. دقيقة، أظنّني لمحتُ شيئًا لبيكاسو في مكانٍ ما. أفٍّ لكِ لا تُتمّين شيئًا حتّى النهاية أبدًا. أعودُ إلى نفسي.

الإنسان مهما كان، يحملُ الكثير في روحه، لأنّه يمثّل روحَ العالَم كلّه.. عِش الحياة ، لا تعبُرْها.. اصنعْ شيئًا ما في فسيْفساءِ هذا العالَم.. لا تستخسِرْ أن تكون حرفًا، حتّى!

عزيزي القارئ هل عرفت الآن لماذا كنتُ لا أُسلمُ نفسي للأفكار؟ لأنها مُكلفة، لا، لا أقصد تكاليف سفرِها بين كلّ ما سبق، بل لأنها تأخذ كثيرًا من الذكريات، والذكريات مادةٌ ثمينة، لا أحب التفريط بها. لا يا عزيزي القارئ لستُ "الأمير الصغير" ولا "أليس في بلاد العجائب". أنا إنسانٌ فحسب. إنسانٌ يعرفُ قيمة الوجود إذا اعتبرنا تلك معرفةً. إنسانٌ لا يحبُّ الموتَ البطيء. لأنّ بابلو نيرودا يقول:
يموتُ ببطءٍ
من لا يسافرُ
من لا يقرأُ
من لا يسمعُ الموسيقى
من لا يُجيدُ الاهتداءَ بعينيه
يموتُ ببطءٍ
من لا يُتلفُ حبَّه الخالص
من يُحجمُ عن تقديمِ المساعدة
يموتُ ببطءٍ…

كما أنّني لا أسعى عزيزي القارئ إلى استعراضٍ معرفيٍّ في الأعلى كما قد يتبادرُ إلى ذهنك ربّما، إنّما أقرّبُ فكرةَ أنَّ الإنسان مهما كان، فهو يحملُ الكثير في روحه، لأنّه يمثّل روحَ العالَم كلّه . عِش الحياة ، لا تعبُرْها . اصنعْ شيئًا ما في فسيْفساءِ هذا العالَم. لا تستخسِرْ أن تكون حرفًا، حتّى!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.