شعار قسم مدونات

الخطاب الإمبراطوري والتغيرات السياسية في اليابان والمنطقة (1)

blogs - japan
ليس من المعتاد أن يستمع اليابانيون إلى صوت الإمبراطور الذي يحاط بهالة من القدسية باعتباره رمزا للأمة. لذلك جاء خطاب الإمبراطور (أكيهيتو) إلى الأمة في الثامن من أغسطس/آب الماضي الذي أبدى فيه الرغبة، وإن بصورة غير مباشرة، بالتنازل عن العرش بسبب تقدمه في السن لأنه يبلغ من العمر 82 عاما، ليشكل حدثا كبيرا بالنسبة للمجتمع الياباني الذي لم يعتد مثل هذه الأمور.
 

خطاب الإمبراطور أعاد الى الذاكرة اليابانية المرة السابقة التي أذاعت فيها محطة الإذاعة اليابانية خطاب الإمبراطور الياباني السابق ووالد الإمبراطور الحالي "هيروهيتو" قبل سبعة عقود من الزمن وبالتحديد في الخامس عشر من شهر أغسطس/آب عام 1945 الذي أعلن فيه استسلام اليابان والقبول بشروط الحلفاء القاسية، وذلك بعد تسعة أيام من إلقاء الولايات المتحدة للقنبلة الذرية على مدينة هيروشيما، وبعد ستة أيام من قصف مدينة نكازاكي بالقنبلة الثانية. كانت تلك المرة الأولى التي يسمع فيها اليابانيون صوت الإمبراطور الذي كان ينظر إليه آنذاك على أنه إله يعبد مع المقدسات.
 

الدستور الياباني الذي فرضته الولايات المتحدة بعد استسلام اليابان حوّل الإمبراطور من رئيس الدولة الذي كان يتمتع بكامل السلطات السياسية في إدارة الأمور إلى مجرد رمز للدولة مسلوب الصلاحيات

لم يأت الخطاب الإمبراطوري من حيث التوقيت والمحتوى من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة لتراكمات كثيرة واستجابة لمتغيرات عديدة تشهدها اليابان والمنطقة، ذلك أن اليابان تتجاذبها اليوم قوتان كبيرتان، أولاهما ناتجة عن رغبة التيار المحافظ الذي يمسك بزمام الحكم في تجاوز تداعيات الحرب العالمية الثانية والتخلص القيود السياسية والاقتصادية التي فرضت عليها من جانب واحد، وهي الشروط التي قبل بها الإمبراطور مرغما وأوجبت عليه مخاطبة الأمة وللمرة الأولى. ذلك أن اليابان، من وجهة نظرهم قد شبت عن الطوق وتعلمت الدرس، وأن الأوضاع في المنطقة تقتضي استجابة جديدة.
 

أما قوة الجذب الثانية فهي أساس المعارضة التي تخشى من عودة نفس الظروف التى أوردت اليابان موارد الهلاك، وفي مقدمتها سيطرة المؤسسة العسكرية على مقاليد الأمور في البلاد والتي نتجت عنها مغامرات عسكرية لا نهاية لها دمرت اليابان والمنطقة.. لذلك فهي تحاول بذل كل الجهود في سبيل الحيلولة دون تكرار تلك التجربة المريرة، بالطبع ليس من السهل معرفة موقف الإمبراطور من تلك الأفكار، لكن من الواضح من خلال لقاءاتي معه ومع جلالة الإمبراطورة عمق التجربة الشخصية التي مرا بها في طفولتهما خلال فترة الحرب العالمية الثانية.
 

لا بد من التنبيه هنا إلى أن الدستور الياباني الذي فرضته الولايات المتحدة بعد استسلام اليابان حوّل الإمبراطور من رئيس الدولة الذي كان يتمتع بكامل السلطات السياسية في إدارة الأمور إلى مجرد رمز للدولة مسلوب من جميع الصلاحيات، وحتى التصرف في ميزانية القصر الإمبراطوري، فهو بحكم الدستور لا يمتلك أية صلاحية للتدخل في الشؤون السياسية، التي هي من اختصاص الحكومة المنبثقة عن البرلمان المنتخب، حتى ولو كانت مجرد خطاب إلى الأمة، ولذلك جاء نص الخطاب الإمبراطوري خاليا من الإشارة الواضحة إلى التنحي عن العرش لأن مجرد التعبير عن الرغبة في ذلك قد تعد تدخلا في الشؤون السياسية.
 

تجدر الإشارة إلى أن المحافظين وفي مقدمتهم رئيس الوزراء لا يخفون رغبتهم في إعادة النظر بالدستور الذي فرض عليهم بعد الحرب وكانت صياغته من قبل الولايات المتحدة، ترمي إلى علاج الأدواء التي أدت إلى عسكرة المجتمع الياباني، ولذلك فهم يسعون إلى إجراء تعديل دستوري يشمل تغيير دور القوات المسلحة وإعادة صياغة المادة التاسعة من الدستور التي حرمت على اليابان الاحتفاظ بالقوة العسكرية الهجومية والاكتفاء بالدفاع الذاتي، وكذلك إعادة بعض الصلاحيات السياسية إلى الإمبراطور التي سلبها منه دستور ما بعد الحرب.
 

نحاول في التدوينات القادمة من هذه السلسلة إلقاء بعض الضوء على الجذور التاريخية والتطورات الحالية التي شكلت خلفية المواقف السياسية من الأحداث ومنها الخطاب الإمبراطوري. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.