شعار قسم مدونات

طبَقَا سياسة.. لو سمحت!

blogs - plates
استيقظَ صباحًا، كأيِّ مواطنٍ عربيّ. نفضَ غبارَ الأمس، وفطر، كأيِّ فطورٍ عربيّ. حمل حقيبته، عمِلَ، كأيِّ موظّفٍ عربيّ. عاد، أكلَ غداءَه. ثمَّ ناقشَ مع السيدة أمورَ البيت، والمجتمع، وشؤونَ الأسرة، ومشاكلَ زوجة أبو حمدي الخبّاز، وأسعارَ الكوسا والبندورة، وحتّى أسباب الاحتباس الحراري، كلُّ ذلك، كان بالطبع، كأيِّ نقاشٍ عربيّ! ودونَ أيِّ شيءٍ لافتٍ، انتهى اليومُ سريعًا، كأيِّ يومٍ عربيّ.

لا شيءَ حتّى الآن، يبدو غريبًا في حياة صديقنا الذي لا اسمَ له – إلَّا أنّه عربيّ – والذي يبدو متمسّكًا بعروبتهِ حدَّ الانفلاتِ من شدّة القبضة! لكنَّ صديقنَا هذا، يبدو غريبًا مساءً، نقيضَ ما كانَ في الصباح! لكنّني لا أظنُّه مستشرفًا من أصحابِنا العرب الكُثُر بالطبع. أولئك الذين يلعنون الرذيلة صباحًا، ويمارسونها ليلًا! إلَّا أنَّه كان يمارسُ نوعًا آخر مِن الرذائل.. إنّها السياسة!

وقتَها أدركتُ أنَّ السياسيّين فعلًا واضحون. لكنّني بحثتُ عن لائحة موادٍّ مُدمنة حصلتُ عليها من منظمة الصحة العالمية، ولمْ أجد السياسة ضمنَها!

أدركْتُه منفردًا في عتمة الليل، يُعِدُّ طبَقَ سياسةٍ، خلسةً. رحتُ أتأمَّلُه، أتفحَّصُه، لا يبدو عليه صاحبَ آراء سياسيّة، ولا أفكار حزبيّة، ولا انتماءات نقابيّة حتّى، هذا وقد اعترفَ لي سابقًا – وطلبَ منّي ألّا أبوحَ لأحد – بأنّه لمْ ينتخب من قبل، ولا يعرفُ صناديق الاقتراع إلّا في أحلامه، حينما يرى نفسَه محاطًا بجُندٍ لا يعلمُ من أيّ ناحيةٍ بعثَ الله بهم. لكنّني بالطبع، بتصرُّفٍ شهم، كان ليفعلَه أيُّ عربيّ، لو كانَ مكاني، أخبرتُه ألّا يقْصُصَ رؤياه، لا من قريبٍ ولا بعيد. ولا حتّى مجازًا ولا توريةً ولا تشبيهًا. للاحتياط طبعًا. لأنَّ السياسيّين محتاطون دائمًا.

في السابق، كنتُ أتساءَل، هل سأُعَدُّ بورجوازيًّا تافهًا، عندما أكتب عن السعادة، أو الحزن حتّى، إذا قِسْنا بالنَّقائض؟ في حين أنَّ الجميع منهمكٌ في التحليل السياسي، وتفكيك قنبلة الأزمة أبديّة المؤقت! أم أَّنني سأُعتبَر من الفئة المتفائلة دائمًا! الفئة المقيتة هذه، التي لا تدرك أنَّ الله كما أضحك فقد أبكى؟ لكنّني ما زلتُ لا أعاقرُ السياسة.

لن أتحدَّثَ هنا عن السياسة – معاذ الله – لأنَّها ليستْ من شأني. ولن أنظِّرَ أبدًا بخصوص هذا الأمر. رغم أنَّه ليس من المُفترض أن تكون من شأنك حتّى تتحدّث بها. السياسة تُتعاطى أكثر من المخدّرات هذه الأيّام.

أذكرُ أنَّه أخبرني يومًا، شيئًا يخصُّ تعاطيه للسياسة، وأسبابًا دفعَتْهُ لفعل ذلك، بعيدًا عن الأعين، لا من ذوي القربى ولا البُعْدى. وقال شيئًا بخصوص أنَّ السياسي لا يثقُ بأحد. فضحكتُ، ليس لأنَّه لا يثق بأحد، بل لأنَّه اعتبر نفسَه سياسيًّا، لكنَّه وقتَها رمقني بنظرةٍ سياسيَّةٍ نادرة، فأدركتُ بعضَ صدْقِه. وأحجمتُ عن الضحك، كما يفعل أيُّ عربيّ أمام السياسيّين. يقولون أنّهم جادُّون كثيرًا، لا أدري.

كان يقول لي، أنَّ السياسة تنفيس! ( سَيِّسْ تِنَفِّسْ ) ولمْ يكُنْ يعني أيَّ رمزيّةٍ بالطبع، لأنَّه كما يقول: ( السياسيُّون واضحون ). فيما بعد، مررتُ عليه – في الحقيقة كنتُ أمرُّه حتَّى أصنعَ منه نكتًا أصوغها لاحقًا – لكنّني أحجمتُ عن ذلك بعدما سألتُه هذه المرّة عن علاقة العربيّ بالسياسة! فقال: ( يا بنيّ ليس السّببُ عندَ العرب فيما قبل هو الجهل، لكنَّ " تلحيقَهم " خلفَ لقمة الخبز يُغنيهم عن السياسة، ويُنْسي المرءَ حتّى مِن أيِّ بلدٍ هو. ما دفعَ العربيّ إلى أنْ " يجمِّعُ " السياسة في رأسه. أمّا الآن فيفيضُ رأسُه، وحتّى مرارتُه، إذا شئت. ويقولُ ما ردَّتْهُ سنينُ عمره الماضية عن قوله. العرب والسياسة، رضِعوا من ضرعٍ واحدٍ، خذْها منّي، يا بنيّ لنْ يشفي غليلَك إلّا جرعة سياسة هذه الأيّام ). وقتَها أدركتُ أنَّ السياسيّين فعلًا واضحون. لكنّني بحثتُ عن لائحة موادٍّ مُدمنة حصلتُ عليها من منظمة الصحة العالمية، ولمْ أجد السياسة ضمنَها!

رغمَ أنّني لا أفهمُ كثيرًا ممّا يقولُ من مصطلحاتٍ وتعبيراتٍ سياسيّة كثيرة، منها القصير ومنها الطويل، إلّا أنّني كنتُ أشعرُ بانتشاءِ القسمِ السياسيّ في دماغي فجأةً! وقتَها أدركتُ فعلًا أنَّ العرب رضعوا سويّةً مع السياسة. ليس سياسة العرب فقط، بل سياسات الدول العظمى، والنّامية، والعالَم الثالث، والعالَم العاشر بعد المئة حتّى. وهذا كلّه من أخوّة الرّضاعة!

بعدَها بمدّة، قطعتُ علاقتي معه، لكنّني ودونَ رغبةٍ منّي، شعرتُ بالحنين، فعدتُ أراقبُه. كان هذا، يومَه المعتاد: حياةٌ عربيّة، وأطباقُ سياسة.

بعدَ هذه الغمْرَة الكئيبة من تأمُّلات الشأن السياسي العربيّ، والكثير من المراقبَة. وأنا أجيلُ نظري في طبقِه، أظهرتُ نفسي لصديقنا الذي كانَ عربيًّا فحسب على الدّوام، ناديْتُه: طبقَيْ سياسة لو سمحت.. "عالخفيف" من فضلك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.