شعار قسم مدونات

أسئلة الاغتيال الصعبة

blogs - lebanon - hizb allah

"كان مناضلاً كبيراً في مواجهة المشروع الصهيوني ومدافعاً عن القضية الفلسطينية وعن محور المقاومة الذي يتصدى لهذا المشروع وينتصر لهذه القضية، كما كان بحق صوتاً شجاعاً ومدوياً في مناهضة حركة التكفير والإلغاء والإقصاء والإبادة"، بهذه العبارات نعا "حزب الله" اللبناني الكاتب الأردني ناهض حتر، مطرباً آذان جمهوره ومؤيديه بكلمات مفتاحية هي "القضية الفلسطينية" و"مقاومة" و"تكفير" و"إبادة"، يعلم الحزب جيداً إنها لا تزال تنقر على وتر حساس.
 

لن أناقش تعريف الحزب لمعنى النضال الكبير، ولا مواقف حتر الدامغة من الفلسطينيين وقضيتهم تحديداً، أو من الإقصاء والإبادة عموماً. كذلك لن أقارن بين التنديد باغتيال شخص ومجازر تنفذ في سورية كل يوم ويذهب ضحيتها المئات من الأبرياء.. فلطالما كان موت الفرد أكبر وقعاً من موت الجماعة. يكفي أن نفكر بالطفل "إيلان" مقابل عشرات الأطفال الذين قضوا مثله غرقاً، أو غير ذلك الكثير من الأمثلة.
 

يدعو اغتيال ناهض حتر إلى التفكير ملياً في أسئلة عميقة لا يزال كثيرون منا يتفادونها، ويفتح جروحاً مؤلمة لكن متقيحة ولم تندمل فعلياً

لكني هنا، وكما في كل مرة، أعود ويصيبني الذهول لجمهور لا يزال عريضاً وينطلي عليه كل ذلك الإطناب. جمهور بات يسمى استسهالاً بـ "جمهور الممانعة"، ويضم أطيافاً متباينة من المتدينين والمتطرفين والعلمانيين (المزعومين) الذين يكفيهم الحد الأدنى من التبرير ليقبلوا بما لا يقبل.
قل لهم فلسطين، وخذ ما تشاء. قل لهم تكفير، واقتل من تشاء.
 

مشكلتي ليست مع المتدينين من الممانعين في هذه الحالة. فهؤلاء اكثر انسجاماً مع أنفسهم, واختلافي معهم أكثر وضوحاً وسهولة. مشكلتي مع "العلمانيين" الذين أحسب نفسي منهم وعليهم. أقرباء, واصدقاء وزملاء وغيرهم. هؤلاء الذين تجمعني بهم خيارات اجتماعية وسلوكية ومعيشية لكن اختبارات يومية دقيقة, تجعل الهوة بيننا تتسع حتى لا يكاد يبقى أي ارضية مشتركة.
 

وبعيداً من التنديد وتبرئة الذمم واللياقات الاجتماعية التي طفحت بها وسائل التواصل الاجتماعي في اليومين الماضيين، يدعو اغتيال ناهض حتر إلى التفكير ملياً في أسئلة عميقة لا يزال كثيرون منا يتفادونها، ويفتح جروحاً مؤلمة لكن متقيحة ولم تندمل فعلياً.
 

انه اغتيال يطرح علينا تحدياً صعباً لأنه يضعنا في مواجهة عارية مع قناعاتنا، ويرمينا شئنا أم أبينا في خندق القاتل. ولعل الاستجابة السريعة للتنديد باغتيال حتر بين معارضيه قبل مؤيديه، وإصرارهم على رفض القتل كقيمة مطلقة، جاء تلبية لتلك الحاجة الضمنية بالتنصل من القاتل، ومحاولة في النجاح باختبار الأخلاق الذاتي. نشجب ونستنكر ونريح ضميرنا بأننا لسنا أفضل من القتيل فحسب، وإنما أيضاً أفضل من قاتله.
 

ولكن الأمس القريب لا يزال بيننا… أطيافه تحوم في كل ذكرى سنوية. فإذا تغاضينا عن الثورة السورية وما أفرزته من انقسامات حادة، وإذا أبعدنا جانباً اغتيالات وتصفيات طالت "رفاقاً" لحتر في لبنان في زمن مضى على يد حلفاء اليوم، يكفي أن نحصي بين 2005 و2013 وحدها 14 اغتيالاً بإطلاق النار أو بالتفجير، نجا منها 4 مستهدفين فقط. وكان بين من قضوا "زملاء" مفترضين لحتر كجبران التويني، وسمير قصير (على اعتبار أن مي شدياق نجت)، و"رفيق" أساسي هو جورج حاوي..
 

هؤلاء كلهم، لم يكونوا "مناضلين كباراً في مواجهة المشروع الصهيوني" ولا "مدافعين عن القضية الفلسطينية" ولا"أصواتاً شجاعة ومدوية في مناهضة حركة التكفير والإلغاء والإقصاء والإبادة"… كانوا فقط ضد "محور المقاومة".
 

هل يختلف سلفي أردني عن وزير لبناني مسيحي نقل متفجرات بسيارته لسفك المزيد من الدماء؟ إذا كان الناس سواسية أمام الموت في نهاية كل مطاف

في مكان ما من الذاكرة، دفن لبنان عقداً دموياً من الاغتيال والقتل والحرب والاحتراب الداخلي واستسلمت كل جماعة لهذيان يسكن مخاوفها ويهدأ قلقها…
لكن اغتيالاً واحداً في عمان، أعاد خلط الاوراق.
 

من يشبه من في هذه المعادلة؟ ومن ضد من؟ هل يختلف سلفي أردني عن وزير لبناني مسيحي نقل متفجرات بسيارته لسفك المزيد من الدماء؟ إذا كان الناس سواسية أمام الموت في نهاية كل مطاف، فهل هم متساوون أيضاً في الاغتيال أم أن قاتلهم هو من يصنع الفرق، كل الفرق؟
 

سيل من الأسئلة المفتوحة التي لا يمكن إلا أن تزيد درجة هذياننا. فالقتيل، هذه المرة كما القاتل، يشبهاننا أكثر مما نحب أن نعتقد. ولا شك أن تلك الأسئلة سترافقنا مدة غير وجيزة من الزمن.. فعلى ما قال "الرفيق" زياد الرحباني "المرحوم، زاد لنا فوق الهم هموم".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.