شعار قسم مدونات

التحليل الإعلامي.. صناعة المنقذ والطريق المسدود

blogs-media

وقف عديد المتابعين للشأن السياسي في مصر وتونس وليبيا عند ظاهرة جديدة في الترويج للخيارات وتسويقها لدى الشارع.
 

وتتميز الظاهرة الجديدة بالتوجيه المركزي وتوفرها على "غرفة عمليات" لتسييرها في أهدافها الكبرى وتفاصيلها الإجرائية وفي اختيار التوقيت المناسب، إضافة لحشد عدد كبير من وسائط الإعلام من فضائيات وإذاعات مسموعة وصحف ورقية وإلكترونية ومواقع إخبارية وصفحات تواصل اجتماعي.
 

تنطلق عملية الترويج من رصد الصعوبات التي ميزت فترة ما بعد 2011، والتي قادتها نخب محسوبة على الثورات بشكل أو بآخر، ومن ثم تقوم بتضخيمها واختلاق أخبار لأحداث لم تحصل، مع التركيز على تشويه الشخصيات التي أفرزها المسار الثوري بعد سقوط رؤوس الأـنظمة السابقة
 

في المرحلة الأولى من الترويج تعقد المقارنات بين الماضي والحاضر، بين الرفاه الذي استطاعت الأنظمة الاستبدادية توفيره مقابل العجز الذي يميز النخب الجديدة.

يتلخص "جدول الأعمال اليومي" في هذه المرحلة في بث الخبر، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، في الصباح، وهو خبر عادة ما يكون مختلقا، ثم تتولى الإذاعات والمواقع الإخبارية والصحف الإلكترونية ترويجه و"تحليله" مع "الخبراء" طيلة اليوم، ليتحول، في آخر اليوم، إلى حقيقة لا تقبل التكذيب لدى العامة، وتختم عملية "صناعة الرأي العام" باستقبال السياسيين، في السهرة، على شاشات الفضائيات الأكثر تمويلا ومتابعة، لاتخاذ مواقف سياسية بناء على "الحقيقة" التي انطلقت، صباحا، بإشاعة نشرتها إحدى صفحات التواصل الاجتماعي.

هذا التمشي عرفته تونس خلال حكم "الترويكا" وشهدته مصر قبل الانقلاب، كما ساد المشهد الإعلامي الليبي الذي تؤثثه جملة من الفضائيات أغلبها يبث من خارج البلاد، وهو ما يعني أن الحديث عن "غرفة عمليات مركزية" توجهه وتتحكم فيه أصبح حقيقة يصعب دحضها.
 

في هذه المرحلة يلجأ مهندسو عملية الترويج لعدة أسلحة معرفية وبيداغوجية لتمرير الرسالة المراد تمريرها، فتعقد المقارنات بين الماضي والحاضر وبين "الرفاه" الذي استطاعت الأنظمة الاستبدادية توفيره مقابل "العجز" الذي يميز النخب الجديدة، كما تقارن الأسعار بين ما كانت عليه وما آلت إليه، ويقارن "الاستقرار الأمني" قبل الثورات بـ"الانفلات" بعدها، ويقارن "رجال الدولة" قبل 2011 بـ"الهواة" الذين أتوا بعدها.
 

ويتم في كل ذلك استغلال جهل المواطن بتفاصيل المشهد قبل الثورات بحكم الانغلاق الإعلامي والتحكم في المعلومة، كما تتم عملية التمرير بمحامل تتميز بقدر عال من الإثارة التي يغيب معها العقل والتساؤل والنقد.
 

أما المرحلة الثانية من عملية الترويج فتبدأ من اللحظة التي يصبح فيها الرأي العام في حالة نفسية و"عقلية" يقبل معها أي بديل مقابل الخلاص من تعاسة الواقع الجديد "الذي جلبته الثورات".
 

في هذه اللحظة تتقدم عملية الترويج خطوة لطرح البديل بالآليات نفسها التي اعتمدتها في المرحلة الأولى وبقصف إعلامي تصعب مقاومته في مجتمعات محكومة بنسب عالية من الأمية وبعقود طويلة من "التربية الاستبدادية".. في هذا المرحلة يطرح البديل، المتمثل، أساسا، في العودة إلى مرحلة ما قبل 2011 بخياراتها السياسية والأمنية وبرجالها وأحزابها وحتى بـ"مافياتها".
 

وكما خضع "العقل الجمعي" لعملية الترويج في مرحلة تسفيه الثورات، فإنه يخضع، وباستمتاع ماسوشي، وينقاد لأي شكل من أشكال الانقلاب الذي يعيده حيث كان، سواء كان انقلابا عسكريا (مصر) أو انقلابا سياسيا انتخابيا ناعما (تونس) أو انقلابا عسكريا قبليا برعاية إقليمية ودولية (ليبيا).
 

لا شك أن الجماهير العريضة في مصر وتونس وليبيا تشعر أنها كانت ضحية عملية تحليل إعلامي معقدة، كما لا شك أن نسبة معتبرة تشعر بندم شديد.

ولعل ما يميز هذه المرحلة هو وصول عملية الترويج، بعد العودة إلى مربع ما قبل 2011، إلى طريق مغلق بحكم الصعوبات الهيكلية التي تواجه هذه البلدان والتي لا ينفع معها تغيير الأشخاص ولا حتى النخب بعد خمسة عقود من حكم الأنظمة الاستبدادية الفاسدة التي لم تضع يوما في حسابها بناء الإنسان ولا تغيير العقليات.
 

فخلال أشهر قليلة تتآكل الآمال التي علقها العامة على المنقذ الجديد وهي تشاهد الأزمات المتعددة الأوجه تتفاقم وتتعمق، مع فارق جوهري عن الفترة التي سبقتها، وهي أنها كانت قادرة على الاحتجاج والمعارضة والرفض والتظلم في وسائل الإعلام ونقد النخب الحاكمة، في حين أصبحت، اليوم، تحت سطوة أجهزة البوليس والمخابرات التي تحصي على الناس أنفاسها، وصار الاحتجاج فعلا مقترنا بالسجن والتعذيب، فيما تحولت وسائل الإعلام إلى مجرد منابر لتأليه الحكام الجدد/ القدامى وتبرير خياراتهم وتخوين معارضيهم، كما كانت لخمسة عقود.
 

لا شك أن الجماهير العريضة في مصر وتونس وليبيا تشعر أنها كانت ضحية عملية "تحليل إعلامي" معقدة، كما لا شك أن نسبة معتبرة تشعر بندم شديد، غير أن الأكيد أن هذه المجتمعات ستدفع ثمنا باهضا قبل أن تتمكن من الخروج، مرة أخرى، من متاهة الاستبداد الذي يقتل كل نفس حر وكل إرادة للحياة ولا يقف عند أي خطوط حمراء في سبيل مصالحه ومصالح رعاته الإقليميين والدوليين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.