شعار قسم مدونات

دفاعا عن التقليد!

blogs - hgac
يعود الحديث في هذه الأوقات عن المؤسسة الدينية التقليدية، ومشاكلها الداخلية والاجتماعية، والوسط المنغلق الذي تؤسسه، وسلبيتها تجاه الثورات الشعبية التي أضحت عنوان تاريخنا الحديث.

شخصياً كنتُ ممن كتب منذ بداية الثورة في نقد الدور السلبي للمؤسسة الدينية الرسمية تجاه الثورة، وتجاه قضية الفكر عامة، وتناولت القضية بحثياً كأحد أسباب تمدد الخطابات الجهادية المتشددة التي شهدت أقصى انتشارها في 2013م، في دراسات متعددة مثل "ثورة المتروكين" و "سياسة الدين المخبأ"، وما زلت أرى إشكالاً كبيراً في التفاعل مع الثورة من قبل النخبة الشرعية والمشايخ المؤيدين للثورة، كحال بقية النخب غير الشرعية، وهو الإشكال الذي ندفع ضريبته فراغاً تسده مشاريع أخرى، وكثيراً ما دفعناه من دمنا.

البديل لن يكون انفتاحاً أكبر أو عقلانية أعمق أو تفاعلاً أكثر إيجابية مع قضايا المجتمع وثوراته، وإنما تيارات أقل منهجية وعلمية وأكثر انفعالية في تناول الدين.

ولكنني أرى أن نقد مؤسسة التقليد، أو نقد تيار المذهبية الأشعرية الصوفية المهيمن بتنويعاته كمدرسة فكرية ونمط تديّن على المشرق العربي منذ عهد الإمام الغزالي (450 – 505 هـ)، يجب أن يكون أقل جذرية وأكثر تحديداً -وتسميةً- تجاه الأدوار السلبية لهذه الكيانات المؤسسية أو الشخصيات الرمزية سواء في السياسة أو المجتمع، وتجاه الإشكالات الفكرية لمؤسسة التقليد عامة مع قضايانا الحديثة فكرياً أو سياسياً، دون أن يكون هذا النقد حرباّ جذرية لإسقاط مؤسسة التقليد نفسها ونمط التدين المرتبط بها وإلصاق جميع مشاكلنا الاجتماعية أو الفكرية أو السياسية بهؤلاء المشايخ.

وذلك لأن السنوات السابقة علمتنا أن البديل لن يكون انفتاحاً أكبر أو عقلانية أعمق أو تفاعلاً أكثر إيجابية مع قضايا المجتمع وثوراته، وإنما تيارات أقل منهجية وعلمية وأكثر انفعالية في تناول الدين، سواء كان موضات النقد العلماني الشعاراتي تجاه الإسلام، أو كان خطابات متشددة كالسلفية الجهادية، والتي ترجع حسب ملاحظة أراها وجيهة لستيفان لاكروا وتوماس هيغهامر في دراستهما عن جهيمان العتيبي، إلى تيار "اللامذهبية" الذي بدأ مع الشيخ الألباني رحمه الله، والذي اصطدم بمؤسسة كبار العلماء وقتها والتي بقيت تعتمد مرجعية مذهبية حنبلية، وهذا المبدأ انتقل عبر "المحتسبين" إلى السلفية الجهادية.

وقد انتشرت في سوريا في الموجة الأولى لصعود الخطاب الجهادي، كلمة أن مذهبنا الكتاب والسنة، عند السؤال عن المرجعية الفقهية والمذهبية، سواء لدى الفصائل أو المحاكم الشرعية الناشئة، والتي قامت في أكثر من منطقة على حرب مع مؤسسة التقليد و التدين السائد باعتبارهم مبتدعة ومميعة حسب الخطاب السلفي، وأنتجت كيانات مشوهة واعتباطية وكوميدية -لولا آثارها السلبية- على المستوى الشرعي والقضائي.

ولست هنا أتفق تماماً مع أطروحة الدكتور رضوان السيد حول أن تيارات الإسلام السياسي والجهادي بانفصالها عن مؤسسة التقليد تقوض استمرارية الإسلام وتفتح فضاء تحريفه، بسبب الإشكالات المعرفية والمواقف السياسية التي ذهب إليها الدكتور رضوان بمآلات أطروحته، خاصة بالنسبة للإسلام السياسي الذي لم ينفصل عامة عن مؤسسة التقليد بمشايخه، وكذلك بالنسبة للتيارات الجهادية التي بصعب القول إنها جميعاً على قطيعة مع المذاهب الفقهية، حتى بالنسبة لتنظيم القاعدة لمن يقرأ الكتابات الشرعية لأبي يحيى الليبي وعطية الله الليبي، رغم أن القاعدة بفروعها ومنظّريها وأنصارها فتحت الباب الأوسع لإسقاط أي مرجعية فقهية أو رمزية أو وجدانية للشعوب الإسلامية.

طبعاً مع اتفاقي مع الدكتور رضوان في دور مؤسسة التقليد وضرورتها وعلاقتها بالسلطة تاريخياً، ولا ينكر أحد أن الدكتور رضوان باحث رصين ومن أهمّ من كتب في قضايا التاريخ المعرفي الإسلامي.

إن التراكم العلمي والتربوي الطويل الذي يعتمده المشايخ في بلادنا منذ قرون، ليس بالضروة حالة تدجين، لأن كل شكل من التعليم والتربية سيكون تدجيناً أيضاً، وقد أسهم مشايخ كالبوطي أو جماعة أبو النور ينتمون لمؤسسة التقليد في ترسيخ السلطة والتحذير من الحرية باعتبارها فتنة (وكذلك علي جمعة وأمثاله في مصر)، ولكن مشايخ آخرين مثل كريم الراجح وجماعة زيد كان لهم مواقف في دعم الثورة والتحذير من الاستبداد، وكلا الطرفين ينتميان لمؤسسة التقليد.

ولا يجب المساواة بين رجب ديب وبعض الطرق الصوفية التي تاجرت بالخرافة في عقول أجيال من جهة، وما بين الصوفية التربوية والوجدانية الوسطية الحاضرة في تدين مجتمعاتنا من جهة أخرى.

إن التراث التشريعي الإسلامي هو مدونة قانونية وتربوية عظيمة، ومنجزنا العلمي الأهم كمسلمين، ومرجعية ممتدة في التاريخ، وتجاوز هذا التراث التشريعي ليس اجتهاداً أو تجديداً بالضرورة، لأنه يصدر غالباً عمن لم يدرسوه، وقد كان علم "أصول الفقه" هو ضمانة الفقهاء لاستمرارية هذه المرجعية وقوانين تجدد أحكامها وتنزيلها في الواقع المتغير، وتحول الفقه لأحكام شكلانية أو قوالب خارج التاريخ قد يكون لنقص في دراسة الفقه أكثر مما هو من تمسك به أو وعي بحدوده وقطعياته ومساحات أحكامه.

الخلاصة:

لا يكون النقد أو الترشيد بإسقاط نمط التدين السائد ككلّ أو المدرسة الفكرية أو أسلوب المدارسة، أمام البدائل الأسوأ وانتشار حالة من السرعة والسهولة في كل شيء.

أن مشاكل مؤسسة التقليد موجودة وكبيرة، والتفكير النقدي فيها واجب، وجزء كبير منها متعلق بصدمة العالم الحديث الذي لم نستطع بعد وعي موقعنا فيه وتقبله، حتى في أسماء دولنا، وصولاً لقضايا العلم والسياسة والحرية، وتختلف "الجماعات" أو التيارات المنتمية لنمط التدين الواسع هذا ومؤسسة التقليد المذهبية في أدوارها وآثارها الاجتماعية والعلمية والسياسية، والتداخل في هذه الأدوار والعوامل لا ينفي وجود مسافة فيما بينها، فليس كل موقف سياسي ذا سبب أيديولوجي بالضرورة، الذرائع والدوافع تتخذ الحجج المعلنة نفسها أحياناً.

والتفكير في مساحات الفقه وعلاقته بالسياسة وأين على الفقيه أن يتكلم أو يصمت ليس ترفاً، خاصة بالنسبة لقصور الأدوات الفكرية والعلمية لدى الفقيه عند حديثه في قضايا تستلزمها وهو ما يخالف أشهر قاعدة لدى الأصوليين "العلم بالشيء فرعٌ عن تصوره"، ولكن هذا التفكير التحليلي أو النقدي ليكون إيجابياً عليه أن يكون تفكيراً في الفقه والسياسة، وليس تفكيراً ضدهما.

وهذه البنى والظواهر الاجتماعية والفكرية أكثر تعدداً من هدمها بتعميم واحد، وأكثر تركيباً من تناولها بأننا معها او ضدها، وإن كان هذا الاعتراض بتعقيد المواضيع قد تحوّل إلى شعار أو اكليشيه مكرور، ومن الطبيعي -والمطلوب- وجود خطاب رأي وعاطفة حولها سلباً وإيجاباً حين ترتبط بسلطة طغيانية أو تجهيلية، ولكن ما ينقصنا أكثر هو الكتابة البحثية والفكرية الهادئة حول قضايانا.

والمراكمة المدرسية والتربوية طويلة الأمد ظاهرة إيجابية وضرورة علمية ويمكن أن تشكل حصانة للمجتمعات وقضاياها حين لا تجيّرها المؤسسة الرسمية للصف المضاد من الحرية أو العقل، وليست هذه التراكمية المدرسية والتربوية ومرجعية العلوم الإسلامية هي بالضرورة السبب في الأدوار السلبية لبعض المشايخ في الحركات الثورية لمجتمعاتهم، ولا يكون نقدها أو ترشيدها بإسقاط نمط التدين السائد ككلّ أو المدرسة الفكرية أو أسلوب المدارسة، أمام بدائلها الأسوأ وانتشار حالة من السرعة والسهولة في كل شيء، من العلم وحتى القتل، مهيمنة على زمننا الراهن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.