شعار قسم مدونات

لماذا تخاف مجتمعاتنا من العلمانية؟

blogs-العاملنية
يبتهج الكثير الناس في المنطقة العربية عندما يقرؤون أن حكومة دولة غربية سمحت لنسائها الشرطيات بوضع الحجاب أثناء فترات دوامهن، وغالبا ما يكون ذلك الحجاب متناسبا مع لباسهن الوظيفي.

أي أن تلك الحكومات لم تسمح لهن فقط بوضع الحجاب وإنما صرفت من مال دافعي ضرائبها، وغالبيتهم ليسوا مسلمين، لشراء حجاب نسائها الشرطيات المسلمات. كما يراود المسلمين، خاصة المقيمين بدول الغرب، شعور بالفرح عندما يفتتح مسجد جديد في المدينة أو الحي الذي يقيمون داخله.
 

ولا يكاد الزائر يدخل مكتبة كبيرة في أية عاصمة غربية إلا ويجد على رفوفها نسخا من القرآن مترجما إلى لغة أهل البلد معروضا للبيع مثله مثل كل الكتب، ولكن القلة منا هم الذين يتساءلون لماذا تٌقْدِمٌ تلك الدول على فعل كل ذلك وأغلب سكانها مسيحيين؟ في حين نجد أن دولا عربية كثيرة لا زالت تمنع على النساء المحجبات العمل في بعض المناصب العمومية، وترفض الترخيص لبناء بيوت عبادات الديانات الأخرى غير تلك التي يدين بها أهلها، وفي الدول التي لا يوجد فيها مسيحيون فإن وجود كتاب إنجيل بحوزة أي من أفرادها قد يعرضه للمساءلة بتهمة التبشير.
 

فرنسا التي تتبنى نظاما علمانيا يصفه البعض بأنه متطرف فيما يتعلق بالسماح بتجلي الدين في الفضاء العام لجأت إلى بعض الإجراءات القانونية لحماية علمانيتها من الزحف الديني.

الجواب عن كل هذه الأسئلة قد يوجزه البعض في وجود ديمقراطية في تلك الدول، لكن هذا يبقى نصف الجواب، لأن دولا عربية تدعي هي الأخرى بأنها ديمقراطية ولا تسمح لنسائها بوضع الحجاب إذا أردن الالتحاق ببعض الوظائف الحكومية مثل سلك الشرطة والجندية عموما.
 

كما أن دولا ديمقراطية مثل فرنسا تبنت قانونا يحظر ارتداء الحجاب الإسلامي وغيره من الرموز الدينية في المدارس، أما نصف الجواب الثاني فهو العلمانية، وهناك من سيقفز ليقول بأن فرنسا هي أكبر وأول دولة علمانية، فلماذا تحظر ارتداء الحجاب والرموز الدينية الأخرى في مدارسها؟ وهذا نقاش آخر،
 

لأن فرنسا التي تتبنى نظاما علمانيا يصفه البعض بأنه "متطرف" فيما يتعلق بالسماح بتجلي الدين في الفضاء العام، إنما لجأت إلى بعض الإجراءات القانونية لحماية علمانيتها من زحف الديني على هذا الفضاء حتى يبقى عاما مفتوحا للجميع وليس لفئة دون أخرى. وغالبا ما يتم ذلك في إطار نقاش ديمقراطي مفتوح،
 

فالنقاش الذي أدى إلى حظر الحجاب والرموز الدينية في المدارس الفرنسية عام 2004، انطلق من المطالبة بحظر الحجاب فقط وفي كل الأماكن العامة، لينتهي بحظر جميع الرموز الدينية، حتى تكون هناك مساواة بين الأديان، ويقتصر المنع داخل المدارس فقط بالنسبة للتلميذات والتلاميذ الذين تقل أعمارهم عن 16 سنة، على اعتبار أنهم قصرا
 

لذلك فالحظر لم يشمل الجامعات والفضاء العام، وفي الصيف الذي نودعه طفت مرة أخرى على السطح في فرنسا قضية لباس السباحة الخاص بالنساء، أي ما يسميه الإعلام الفرنسي بـ "البوركيني"، وكان نقاشا مفتوحا للجميع، ورأينا كيف تدخل القضاء الفرنسي في النهاية للحسم وإلغاء قرارات عنصرية اتخذها عمداء مدن فرنسية بمنع هذا اللباس على الشواطئ وفي المسابح العمومي.
 

لذلك يجب أن نتساءل هل كان يمكن أن يجري مثل هذا النقاش في بلد غير ديمقراطي وأكثر من ذلك هل كان يمكن أن يوجد مثل هذا النقاش في بلد غير علماني؟
 

فالديمقراطية والعلمانية متلازمتان، يصعب التفريق بينهما، لأن الديمقراطية باعتبارها حرية الرأي والفكر لا يمكنها أن تزدهر وتُنتج إلى داخل الإطار الذي يسمح ويضمن بتعدد الآراء وحرية الأفكار.
 

ولعل في هذا جزء من الجواب عن السؤال الذي حمله عنوان هذه التدوينة. فالخوف من العلمانية هو خوف من فضاء الحرية والنقاش الذي يرتفع سقفه عاليا دخل الدول العلمانية مما يجعل الكثيرين يتخوفون منها.
 

لكن، ليس هذا هو السبب الوحيد الذي يجعل الكثير من الناس في المنطقة العربية يتخوفون من العلمانية، بل ويعادونها، وإنما هناك أسباب أخرى يمكن حصرها في ثلاثة رئيسية.
 

فكرة العلمانية جاءت أصلا لتفصل الدولة عن الدين وتمنعها من التدخل في شؤون الناس الدينية وفي معتقداتهم حتى تتفرغ لوظائفها الثلاثة الأساسية التنفيذية والتشريعية والقضائية.

السبب الأول، تاريخي مرتبط بالفكر الإسلامي الذي هيمن على الساحة الفكرية الإسلامية طيلة نصف القرن الماضي، وتميز بظهور ما سيسمى بـ "الإسلام السياسي"، أي المشروع السياسية القائم على الفكر الديني. وقد لعب منظرو هذا الفكر دورا كبيرا في تنفير الناس من "العلمانية"، وتشويهها وأحيانا تصويرها على أنها مناهضة للدين. وهؤلاء يمكن فهم سبب معاداتهم لـ "العلمانية"، التي تقوم على الفصل بين الدين والسياسية، بينما كانوا هم أصحاب مشاريع سياسية تقوم على الدين، ولعل هذا ما يفسر هجومهم العنيف على العلمانية.
 

السبب الثاني، يَكمُن في تعريف كلمة أو مفهوم العلمانية، فهناك من مازال يخلط بين العلمانية والإلحاد، أو يصف العلمانية بأنها معاداة الدين، أو فقط يعتبر العلمانية تحررا من طقوس الدين.

وحتى في الندوات الثقافية وعند بعض السياسيين ما زال يقع الخلط بين المفهوم والاعتقاد عندما يٌصنِّف أشخاص أنفسَهم بأنهم علمانيين أو يصفون أحزابهم بأنها علمانية، في حين أن الشخص في حد ذاته كما الحزب لا يمكنه أن يكون علمانيا، لأن العلمانية ليست إيديولوجية وأبعد من أن تكون دينا، وهي لا تدعي ذلك أصلا. وما يسري على الفرد يسري على المجتمعات أيضا، إذا لا يصح أن نصف مجتمعا ما بأنه علماني، فلا يمكن مثلا أن نصف المجتمع الفرنسي بأنه علماني، لأنه يتكون من أفراد يؤمنون بديانات متعددة ومن بينهم لا دينيون وملحدون.
 

العلمانية كصفة لا يمكن أن تتصف بها سوى الدولة. أي المؤسسات الرسمية التي تقوم بوظائف الدولة الثلاث الرئيسية. وفكرة العلمانية جاءت أصلا لتفصل الدولة عن الدين وتمنعها من التدخل في شؤون الناس الدينية وفي معتقداتهم حتى تتفرغ لوظائفها الثلاثة الأساسية التنفيذية والتشريعية والقضائية.
 

السبب الثالث، هو استمرار التوظيف السياسي للدين من طرف الأنظمة والحكومات والجماعات، وبما أن أغلبها أو كلها تفتقد إلى الشرعية الديمقراطية والشعبية، فهي تعتمد على الدين للتحكم في شعوبها أو فقط للترويج لخطاباتها.

وحتى الأنظمة العسكرية التي رفعت شعار "العلمانية" في العراق أيام صدام حسين، وفي سوريا أثناء حكم آل الأسد، فهي إنما استغلت شعارات العلمانية، أولا، للترويج لصورة إيجابية عنها في الخارج وخاصة لدى الغربوثانيا، لقمع معارضاتها الدينية في الداخل.
 

وحتى في دولة مثل تركيا التي توصف اليوم بأنها علمانية، فهذا أمر غير صحيح لأن علمانية أتاتورك قامت على محاربة الإسلام، والمفروض في الدولة العلمانية أن تقف على نفس المسافة مع كل الديانات بل وحتى مع من لا يؤمنون بأية ديانة.

وكرد فعل على علمانية أتاتورك التي كان يحرسها العسكر تقوى التيار الديني الذي يحكم اليوم في تركيا، فبروز هذا التيار وتناميه داخل المجتمع التركي، إنما جاء في جزء منه كجواب أو رد فعل على محاربة الدين باسم العلمانية خلال العقود الأولى من قيام علمانية أتاتورك.
 

والدليل على أن تركيا اليوم ليست علمانية هو وجود وزارة تعنى بالشؤون الدينية داخل حكومتها، رغم أنها أصبحت تسمى وزارة المعارف. فمثل هذه الوزارات لا توجد سوى في الدول غير العلمانية بل واختفى وجودها في معظم دول العالم حتى في تلك التي لا تتبنى نظاما علمانيا. لماذا؟

لأن الحكومات لا يمكنها أن تدير شؤون الناس الدينية، فلديها من المهام ما هو أولى وأجدى وأنفع لحياة الناس الدنيوية. وحتى لو أرادت أن تفعل ذلك فلا يمكنها أن تتقنه وتُحاسَب عليه، فشؤون الناس الدينية أمر تركه الخالق للفرد، ولا يمكن أن يُحاسِبه عليه إلا هو، وكل فرد يٌحاسَب بذاته وليس بمن يتولى الإشراف على شؤونه الدينية.
 

وحتى نفهم جيدا فكرة العلمانية، فهي جاءت ضد الدولة الدينية وليس ضد الدين، أي ضد المؤسسة الدينية أي الكنيسة ورجالها الذين كانوا يتدخلون في تدبير كل شؤون الناس، للسيطرة على المجتمع وكل أنشطته العملية والعلمية.
 

العلمانية لا يمكنها أن تظهر إلا في جو ديمقراطي، كما أن الديمقراطية لا تنجح إلا في ظل سيادة نظام علماني، فهما متلازمتان يصعب الفصل بينهما.

أما العلمانية بمفهومها المعاصر فهي ليست فكرا وإنما هي الإطار الذي يسمح لجميع الأفكار بأن تتعايش داخله، فداخل المجتمع العلماني يمكن أن يتعايش اليهودي مع المسيحي مع المسلم مع اليهودي والهندوسي واللاديني والملحد.. وكل هؤلاء يمكن أن يوصفوا بأنهم علمانيين لأنهم قبلوا أن يعيشوا داخل نفس الإطار الذي ينظم علاقتهم بالآخر. كما أن العلمانية ليست ضد الدين، وإلا لما كانت دولة مثل بريطانيا علمانية وملكتها هي رئيسة الكنسية.
 

من يخافون من العلمانية أو يخوفون الناس منها صنفان، إما أشخاص يجهلون المعرفة بها، ومن جهل شيئا عاداه، أو أشخاص لا يريدون للناس أن تفهم معنى العلمانية، لأنهم لا يريدون أن يتم فصل الدين عن السياسة لأغراض ومصالح تخصهم، وهؤلاء هم الحكام والسياسيين عموما الذين يوظفون الدين لأغراض سياسية.
 

أيضا، العلمانية لا يمكنها أن تظهر إلا في جو ديمقراطي، كما أن الديمقراطية لا تنجح إلا في ظل سيادة نظام علماني، فهما متلازمتان يصعب الفصل بينهما. وكل الدول الغربية التي تصنف اليوم بأنها ديمقراطية تتبنى نظاما علمانيا يفصل بين الدين والدولة. والعكس صحيح.
 

فلا وجود لنظام ديمقراطي غير علماني. والديمقراطية هنا، لا يجب أن نختصرها في صناديق الاقتراع كما كان ومازال يحدث ذلك في بعض الدول العربية. الديمقراطية، عدا كونها حكم المؤسسات والفصل بين السلط، هي أولا وقبل كل شيء حرية الرأي وحرية الاعتقاد. وهذه الحرية لا يمكنها أن توجد إلا داخل إطار علماني يكفل للفرد حرية الاحتفاظ بإيمانه واعتقاده لنفسه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.