شعار قسم مدونات

الموت من أجل البقاء

blog سوريا

إن الحال التي أصبحت تعيشها شعوبنا العربية سلبت البسمة والابتسامة عن كثير من سكانها، فالوصف أشبه بغمامة سوداء تغطي سماء الوطن العربي، سماء تبددت سحبها ليحل مكانها دخان القنابل ونيران المتفجرات وصار ينزل بدل المطر وابل الرصاص وصواريخ الطائرات لتزاحم الطيور المحلقة في السماء وتمنعها لذة التحليق في المرتفعات.
 

لم أكن أعرف معنى العروبة إلا بعد أن جلست على مقاعد الدراسة وعلمني مدرّسي القصيد الذي كان مطلعه بلاد العرب أوطاني.. من الشام لبغدان.

فترى مشاهد الخراب والدمار كل يوم، قتلى وجرحى سقطت تحت نيران مشتعلة حولت حياة الإنسانية إلى مشاهد يومية الغائب الأكبر فيها هوالأمن والسلم، دماء تسيل كل يوم تحت أطنان وبراميل المتفجرات التي أصبحت تحرق أجساد كثيرة في ربوع شاسعة من وطني العربي العزيز، نعم فقد كان بالأمس وطنا عزيزا وها هواليوم أضحى ذليلا، كان وطنا شامخا سابقا في بناء الحضارة، قائدا في صفوف الأمم تستلهم من مجده العبر بعدما صارت اليوم تهدم أطرافه وتخرب أثاره، متذيلا مراتب التطور والتقدم والعقائد والمدائن.

 
إنني أشعر بالغيرة عن وطني العربي منذ ولدت، فمازلت أذكر أيام الصغر والطفولة فلم أنسى أبدا ذلك اليوم الذي ودعتني فيه أمي وهي فرحة سعيدة بأول أبنائها يحمل حقيبته المدرسية الجديدة ويلبس مئزره الأبيض الأنيق ذاهبا إلى المدرسة قبل أن ينادي أبي عني أسرع يا بني فقد حان الوقت للدخول، ولم أكن أعرف معنى للعروبة حينها إلا بعد أن جلست على مقاعد الدراسة وعلمني مدرسي القصيد والنشيد الذي كان مطلعه بلاد العرب أوطاني.. من الشام لبغدان.
 

فأي شام صار اليوم وأي حال نزل بأوطاني فقد أصبحت أرى أن أوطاني تقسمت إلى أوطان داخلها أوطان، الأول يقول لثاني أنا سكنت قبلك واسأل التراب إن شئت والحيطان، فهل سبب الخلاف في حكم وعدل زعيم البلاد الأمريكان أم العجز في عرب أوطاني فأين عربي اليوم وأين أوطاني، لقد تقسم وطني في صراع الأوطان وضاعت وحدته في مصالح من تزعم أنها حامي حقوق الإنسان.

اليوم أصبحت أرى منه هذا الوطن أرواح أبرياء تسقط كل دقيقة بل كل ثانية وجزءا منها، أجساد أبناء جلدتي منها العارية وأجساد أخرى أرغمتها قسوة الظروف فتمزقت ثيابها فهي كذلك عارية، كبار وصغار.. عفوا أقولها إني أرى الصبيان فيهم كلهم كبار، رجال ونساء شيوخ وعجائز، بنين وبنات رضع ومرضعات، نساء ترمل كل وقت، وحرائر تنتهك أعراضهن في كل حين، في كل بلاد العرب من سوريا إلى العراق قتيل وجريح وأخر بترت له الساق، في بلاد العرب من اليمن إلى ليبيا هدمت الديار وهجرت الأسر ورضيع عزل عن أمه قهرا فلم يرتوي من ثديها، بعد أن حرم العيش فوق ارض أمه الأولى التي انتهكت عروبتها.
 

فالليل صار كمثل النهار من وقع القنابل ودوي الانفجار، لم تعد النفس البشرية فيه تفرق بين هدوء الليل وسكونه ولا بين حلاوة النهار وما تجنيه من الكد والجد في فصوله، آلات حرب لا تبقي ولا تذر، معارك طاحنة لا تعرف نهايتها ولا حتى الغالب فيها والخاسر، فقد بات المولود يصرخ صرخته الأولى معلنا قدومه إلى هذه الحياة وهويجهلها وبجنبه أبوه قد لفظ أنفاسه على وقع القنابل والرشاش وحتى الفقر.
 

واقع اليوم يقول إن أردت أن تغير الحياة فلا بد أن تزهق الأرواح، عش في الحياة سيدا وغيرك كلهم عبيد.

بل وكذا اليم والبحر اخذ نصيبه من أجساد أبناء الوطن لما أجبرتهم الحروب على الهروب، فالحرب في اليابس ورائهم اشتدت أوزارها والبحار أمامهم تلاطمت أمواجها، فأين المفر، الإنسان عدو للإنسان، بشر يفترس بشر، بعدما دخل في سلام كل من الغزال والنمر والحية والصقر، وامضوا اتفاق التعايش حتى يكف البشر عن الطغيان والتجبر، وأشك في أن الاتفاق طويل الأمد كمد البصر.

 
لا شك أن مشاهد الدماء والدمار وانتهاك الحرمات صاحبها صمت من بيدهم القرار، إنني في حيرة من أمري فتجدني أطرح السؤال تلوالسؤال، هل من أجل البقاء ننتهج سياسة الفناء، تموت أرواح لتحيى أخرى، فهل صار القتل عنوانا على هذه المعمورة آوربما إنها فلسفة الحياة، إن أردت أن تغير الحياة من حال إلى حال وتنتقل من وضع إلى أخر فلا بد أن تزهق أرواح وأرواح، عش في الحياة سيدا وغيرك كلهم عبيدا، عش في الحياة غنيا وغيرك فقراء إليك يلجئون فالليل والنهار متلازمين والشر والخير متلازمين والسكينة ذوحدين .

إنه وطن جريح، إنه وطن يئن، إنه وطن يستغيث.. فهل من عمر وهل من خالد وهل وهل.. وهل لنا من أمل، لا شك إن الأمل بعد الله عزوجل يكون في العمل، العمل على توحيد صفوف وحدتنا العربية المتمزقة التي تكالبت عليها الأمم، بعدما أغراها البترول وحتى الفحم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.