شعار قسم مدونات

في رحاب المسجد الأقصى

blogs - القدس

كنّا نجلس على عتبةٍ طاهرة في رحاب المسجد الأقصى، نتأمل قبّة الصخرة والزوّار الذي جاؤوا من أقصى البلاد وأدناها لتُضاعفَ لهم الأجور في أيّام رمضان المباركة من العام الماضي..  بعد أن ساد الصمت بيننا لفترة، نطق قائلاً: لقد فاتتني صلاة العصر، سألته مستغربة ولِم َ لمْ تُصلّها مع الجماعة! فردّ ضاحكاً: أنا لا أصلّي أصلاً إلا عندما آتي إلى المسجد الأقصى.. وهنا كانت قد ارتسمت على وجهي علامة تعجّب ضخمة قائلة: أتقولها وأنت تضحك ولا تبالي!! ف كان الجواب الصاعقة: " هكذا نحن، معظم شباب بلادي لا يصلّون إلّا بعد بلوغ الأربعين ".

و كأنّ دلواً من الماء المثلّج انصبّ على رأسي على حين غفلةٍ منّي.. أَيُعقَل أن نتجرّأ على الله بهذا الشكل ونستغرب من هواننا على النّاس! نعصيه ونحن نعلم علم اليقين أنّ "الأمر كلّه لله"..  أنا لا أفقهُ كثيراً في الدين، ولا أفتي في السياسة ولا أؤمن بها البتّة، ولكنّني أفهم اللغة العربية وأستطيع قراءة القرآن، أستطيع أن أقرأ قوله تعالى: "إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ"، وأدرك تماماً أن "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ"، فكيف نطلب النصر ونحن أبعد ما يكون عن النّاصر! و كيف نرجو العزة ونحن أبعد ما يكون عن المعزّ!

أؤمن شخصياً أن أسباب الانتصار اثنان لا ثالث لهما، إمّا الإيمان الذي يدّعي الجميع في بلادي أنه يملأ قلوبهم ونسوا بأن الإيمان اصطلاحاً ما وقر في القلب وصدّقه العمل، و إمّا القوة كما قال تعالى "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ" وتكون بكثرة المال والسلاح والعلم والتلاحم. 

زادت الفتن والشبهات والمنكرات ونحن نتفرّج بل وننخرط فيها، نحاكي الغرب في تفكيرهم وطريقة معيشتهم ونسينا العادات والتقاليد – السويّة منها – والدين.

ونحن للأسف لا نملك القوة ولا الإيمان الصحيح، فجيوشنا لا تضاهي جيوش القوى العظمى، ومعظم بلداننا مدينة بمبالغ طائلة، وما زلنا نستورد العلم ولا نصنعه، وأمّتنا مشتتة مقسّمة إلى دول ودويلات ومذاهب وملل بشكل عنصريّ مقيت، كيف لنا القوة ونحن بهذا التخلّف الجاهلي! أمّا إيماننا فإنّه إمّا ينصّ على أنّنا نحن صنّاع الانتصار، ونسينا مسبّب الأسباب، أو أنّنا نؤمن بتواكل أن الدعاء بدون عمل سيجلب لنا ما نريد ونحن نجلس في بيوتنا نشاهد التلفاز، ولكن لحظة يا عزيزي، هل أدّيت حقّ الله عليك قبل أن تطلب حقّك في أن يمدّ لك يد العون ؟

أنا لا أقول لكَ أن عليكَ أن تصلّي كـ عثمان، و تصوم كـ داوود، و تقوم الليل كـ ابن الخطّاب، و لكن عليك أن تؤدي واجباتك قبل أن تُطالب بحقوقك .. "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"، لن تتزحزح الأمّة خطوة إلى الأمام وعقلياتنا في تراجعٍ مستمرّ، تزداد الفتن والشبهات والمنكرات ونحن نتفرّج بل وننخرط فيها، نحاكي الغرب في تفكيرهم وطريقة معيشتهم ونسينا العادات والتقاليد – السويّة منها – والدين، و أصبح المسلمون أشدّ النّاس عداوةً للإسلام، ولولا أنّ الله جلّ في علاه أعزّ هذا الدين إلى يوم الدين لأشفقت على الاسلام من أهله، أهله الذين ينتمون له في جوازات السفر وشهادات الميلاد فقط، وكذلك في المناسبات الدينية على مواقع التواصل الاجتماعي ليواكبوا التطوّر بأنّهم ملمّين بكافة المناسبات التي تحدث في العالم، ولئن سألت الذي يهنّئ أصدقائه والأمة الاسلامية بذكرى الاسراء والمعراج عن هذه الحادثة لما أجابك بكلمة واحدة.

لقد أصبحنا إمّعة نسير مع الأغلبية، لا يهمّنا الطريق و لا كيفية الوصول، بل نحرص على أن نكون مع الركب حتى لو كان يسير إلى الخلف. أشفق على الاسلام من أبنائه الذين يعادونه أشدّ العداء ويرون فيمن يحافظ على دينه التزمّت والتطرّف والارهاب، وهم أوّل من يدين العمليات الارهابية الي تحدث في الغرب إن انتشر خبر بأنّ منفذها يحمل اسماً مسلماً، وهم رقودٌ عن جميع عمليات القتل والذبح التي يرتكبها من هم على غير ملّة الاسلام في حق المسلمين، لا أبيح القتل لأي مخلوقٍ كان ولكن أطالب بالعدل في استنكار الارهاب الحاصل من أي شخصً كان بحق أي ملة كانت. 

أصبح الشباب يستحي من الحجاب الشرعي، ومن اللحية المطلقة احياءً لسنة رسول الأمة، ومن الصلاة والصيام وكل ما يخصّ الاسلام، وأصبحنا نتباهى بمحاكاة الغرب والتحرّر الذي يطال الأجساد لا العقول، وأصبح الشغل الشاغل للمسلمين محاربة النقاب ونسوا بأن اللّباس محكوم بالحرية الشخصية، ولا يحقّ لك التدخّل في لباس غيرك إن لم يكن يؤذيك أو يتجاوز خطوط حريّتك. 

كنّا خير أمة أخرجت للناس عندما كنّا مصدراً للعلم والكتب والثقافات وبنينا أعرق الحضارات، تباهينا بترجمة كتب ابن سينا وابن رشد والكندي إلى اللغات العالمية، وأنسانا الغرور أن الطريق لا بدّ وأن يكمله الخلف وراثةً عن السلف.

بعيداً عن الدين، لقد تخّلت الأمّة العربية عن عاداتها وتقاليدها كنوع من الحداثة والتطوّر، وكما قال الدكتور مصطفى محمود" أمام هذا الاستعراض الباهر للتقدم العلمي الغربي فقدنا نحن الشرقيين ثقتنا بأنفسنا ونظرنا باحتقار إلى تراثنا وديننا "، وهذا ما جعلنا نصنّف كدول العالم الثالث، لماذا الثالث؟! لأنّنا تخلّينا عن هويتّنا وطباعنا و تقلّدنا بالغرب، أصبحنا نسخة مقلّدة فاشلة عنهم، نلبس لباسهم ونتكلّم بلسانهم و نتناقش بمنطقهم، ولكنّنا و للأسف أخذنا ما يشيننا ونسينا بأن نأخذ منهم حبّ العلم وتشجيع العلماء والمبدعين، فقد أصبحنا أمةً مستهلكة على جميع الأصعدة، وحتى إن كان فينا مبدعون، فإن بيئتنا ليست خصبة بالنسبة لهم ولا تحتوي على المواد العضوية اللازمة التي تساعدهم على النمو، فيلجئون للغرب ليحققوا طموحاتهم، وما زلنا نحن نستورد العقول المفكّرة من الخارج ونتباهى بها.

حضرتُ يوماً اجتماع عمل مع عدد من الزملاء وضيوف من خارج البلاد يبحثون عن فرصة للاستثمار في مجال التدريب، فكان زميلي الأعلى منّي منصباً يشرح لهم عن أحد مشاريعنا في ذات المجال ويتباهى بفخر بأن جميع المدرّبين الذين يعملون في هذا المشروع أجانب مستوردون من الخارج، فما كان من الضيفة إلا أن قالت نحن لا نريد استيراد العقول والخبرات، بل نريد أن ندرّب أبناء الوطن حتى يضاهوا المدربين الأجانب، ليكون المشروع وطنياً بحتاً، هنا أحسست بالخجل من زميلي الذي يتباهى بأمرٍ يخاله مدعاةً للفخر ولكنّه في الحقيقة أمراً مخجلاً، ألهذا الحد فقدنا الثقة بالعقول العربية وأصبحنا لا نرى فيها التميّز والابداع!! 

كنّا خير أمة أخرجت للناس عندما كنّا مصدراً للعلم والكتب والثقافات وبنينا أعرق الحضارات، تباهينا بترجمة كتب ابن سينا وابن رشد والكندي إلى اللغات العالمية، وأنسانا الغرور أن الطريق لا بدّ وأن يكمله الخلف وراثةً عن السلف، وأنّ الأمجاد تبقى في الماضي إن لم يحملها أحد إلى المستقبل. 

لم نتمسّك بدين، ولا بعادات وتقاليد، ولا نملك القوة، ولم نشحذ العقل والطاقات، ونريد أن ينصرنا رب العباد والبلاد، قل لي بربك كيف!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.