شعار قسم مدونات

المَسيح وبُطرس ويُوسف

blogs- كهف
حمل قلبه والإنجيل، وأحزانه، ومضى. كان الأحبّة قد تفرّقوا، فرّقتْهم يدُ البَطش، ألقتْ بهم إلى أودية الموت دون أيّ أسىً، إنّه عصر الأباطرة الّذين حكموا الأرض بالسّلاح، لكنّ ذلك لن يدوم، السّلاح لن يستمرّ في الأيدي؛ الأيدي سيأكلها التّراب، والرّعب لن يظلّ مرتِسمًا في العيون؛ العيون سيأكلها الدّود، البركان لن يظلّ متفجّرًا إلى الأبد، ستأكله الأرض ويخمد، وعلى أطراف رماده ستطلع أشجار اللّوز، وتفوح أزهار الياسمين.

كلّ باطلٍ سينتهي، مشكلته مع الّذين يعانون منه هي مسألة وقت، في النّهاية لن يدوم إلاّ الحقّ، والحقّ ما قاله المسيح، نعم، سيدوم ما قاله المسيح: حُبّه، ابتسامته السّاحرة، عيناه الصّافِيتان، لمسته الحانية، كلمته الآسرة، حُزنُه على أتباعه، فرحه بإيمانهم، لو كان يؤمن بأنّ السّلاح يهزم الفكرة لما أوصى بطرس أنْ يلقي السّيف، لو كان يؤمن أنّ البقاء لقوّة النّار لما سمح لنفسه أنْ تمسّه وهو حيّ، نار العداوة تُطفأ بماء المحبّة، حتّى لو استهزأ بكَ كلّ مَنْ في الأرض وسَمَّوكَ ضعيفًا، أو سَخِروا من طريقتك في التّعامل بهذه الطّريقة السّاذجة الّتي لا يعترفُ بها عالَم البطش والتّنكيل والتّخويف، وغَرْز الرّعب في الأفئدة.
 

إنّه المسيح الّذي علّمنا أنّ الزّهرة تنبتُ في الصّخرة، حتّى ولو كانت الصّخرة في وادٍ جديبٍ لا يصل إليها الماء، إنّ وردة الحُبّ لا تحتاج إلى الماء مادامتْ تُسقَى بدم القلب الصّادق.

سيدوم نهجُه إلى يوم الدّين، نهج المحبّة؛ أنْ تزرع في قلبِ قاتِلك وردة حتّى وإنْ نمتْ متأخّرة، أنْ تهبَ الحياة لمن يهبك الموت، أنّ تُسامح مَنْ عرفتَ ومَنْ لم تعرف كأنّ ذنبكَ الوحيد ألاّ تُسارع بذلك وتبدأ بمن ظلمك، بمَن جمع كلّ ما في قاموسه من ألفاظٍ جارحة ورمى بها وجهك السّمح وقلبكَ الدّافِئ مرّة واحدة.

إنّه المسيح الّذي علّمنا أنّ الزّهرة تنبتُ في الصّخرة، حتّى ولو كانت الصّخرة في وادٍ جديبٍ لا يصل إليها الماء، إنّ وردة الحُبّ لا تحتاج إلى الماء مادامتْ تُسقَى بدم القلب الصّادق. إنّه المسيح الّذي علّمنا أنّ البركة تمحو اللّعنة، حتّى لو كان مَنْ ألبسكَ تلك اللّعنة هو إبليس نفسه. إنّه المسيح الّذي قضى حياته بيننا يُعلّمنا في دروسه الحيّة ذلك الحبّ كيفَ يكون، وكيفَ يحيا فينا، وكيفَ يُثمر في النّفوس، وكيفَ يستظلّ بشجرته العاصون قبل الطّائعين. إنّه المسيح، وكفى أنْ تلفظَ اسمه الخالد لتكتشف أنّه لم يعرف إلاّ الحبّ، ولم يخطر في بالك عنه إلاّ الحبّ، إنّه الحُبّ نفسه متمثّلاً في بشرٍ يمشي على الأرض.

لكنّه في المقابل علّمنا أيضًا أنّ بيوت الله لا تتحوّل إلى مغاراتٍ للّصوص، وما أكثر اللّصوص الّذين حذّر منهم، وجاؤوا في أعقابه، وما زال إلى اليوم يقول لهم: "لا تُصدّقوهم، سيظهرون هنا وهنا، وسيتكلّمون باسمي، ولا قولَ إلاّ ما قلته، ولا حقّ إلاّ ما اتّبعتم ما جئتُ به، فلا تظلموا أنفسكم بالاستِماع إليهم، فإنّما جاؤوا ليصدّوكم عن السّبيل ويحلفون أنّهم مهتدون". حمل قلبه والإنجيل، وأحزانه، ومضى. سيأوي إلى كهفٍ يعصمه من الهواء الّذي امتلأ خبَثًا، كان يريد أنْ يُنقّي روحه قبل أنْ ينزل إلى العالَم مرّة أخرى فيُبلّغ دعوة الحقّ إلى النّاس الّذين ذهبوا في الضّلال كلّ مذهب.

إنّه العام التّسعون للميلاد. كان قد قضى أكثر الحواريّين، وحتّى حواريّو الحواريّين، كانتْ قد ضُرَبتْ أعناقهم بالسّيف، أو سُمّروا على الصّليب، أو قُطّعتْ أعضاؤهم، أو حُرِقوا.. كان القتل قد استحرّ بهم، وظلّ أتباعهم على خوفٍ من الفتنة أنْ تطالهم، فلم يُظهِروا أنفسهم، وخلتْ كثيرٌ من المعابد منهم، ورأى كثيرون منهم أنّ القيامة قامتْ أكثر من مرّة، قامتْ مع حرقِ نيرون لروما، وقامتْ مع حرق تيتوس لأورشليم، وقامتْ مع حرق المسيحيّين أنفسهم في السّاحات العامّة وفي الحدائق، وقامتْ مع بركان إيزوف، وقامت مع حرق روما الثّاني، ومع كلّ هذه القيامات المتعدّدة إلاّ أنّ المسيح لم يعد.

لم يكنْ أحدهم يعلم أنّني لن أعود في حياتهم، سأعودُ في حياةِ آخرين. وأنّ قيامات أخرى في عصورٍ متلاحقةٍ ستحدث أيضًا قبل أنْ تأتي نهاية العالَم، وقبل أنْ يجيء يوم الدينونة. لقد أوصيتهم بالصّبر، وأنْ يحفظوا أنفسهم، وما من نبيّ إلاّ أمر بالصّبر وحثّ عليه، وإنّ الصّبر جُهد القلب، واحتمال الجسد، ومعاناة الرّوح، وثمرته الحلوة بعد طعمه المرير قد لا تكون في حياة مَن اضطُهِد، ربّما يتأجّل ذلك إلى زمنٍ آخَر، لكنّه على كلّ الأحوال لا مناص من الصّبر، ولا طريق توصل إلى الدّينونة غيره، فاصبروا ها أنا ذا أقول لكم: اصبروا أيّها المُعذّبون، اصبروا أيّها المُضطهَدون، إنّ النّصر لكم في النّهاية، وإنّ لحظةَ جزعٍ واحدةٍ تذهب بعمرٍ كامل من الصّبر وتمحقه، فإيّاكم أنْ يُصيبكم الجزع، إيّاكم أنْ يمسّكم اليأس، وإيّاكم أنْ يتسرّب إلى قلوبكم الوهن أو الشّكّ، إنّ الشّكّ بانتصار الخير كُفر، إنّ الشّك بانتصار دعوتي ورسالتي كُفر، إنّ الشّكّ بأنّني لن أعودَ في آخر الزّمان فأعيد الحقّ وصولته، وأمحق الباطل وجولته، لَهُو كفر. وموعدنا غدًا ليس اليوم، فاصبروا على أذى اليوم ليأنسَ قلبُكم بفرح الغد.
 

حمل قلبه والإنجيل، وأحزانه، ومضى. كان يصعدُ في التّلال، يبحثُ عن كهفٍ يُبعده عن النّاس ويُقرّبه من الله. كهفٍ يجدُ فيه لذّة المناجاة مع الخالق، وفرصةَ العُمر في إعادة إحياء الرّوح الّتي اضطربتْ بكثرة القتل، تحت هذه الجبال، وفي تلك السّهول على أيدي حُكّام القّوة والجبروت. ظلّ يوسفُ يصعد وروحه التّوّاقة تدفعه إلى الأعلى، إلى أنْ وصل. كان يكشفُ كلّ ما دونه، ويكشفُ كلّ ما فوقه، ولا يعلوه شيء. أقام فيه. لا يأكل إلاّ مِمّا يجد، ولا يشربُ إلاّ ما تجود به السّماء.
 

وضع "المسيح" الإنجيل في صندوقٍ كان قد طلبَ منذ سنواتٍ من أحد مريديه أنْ يصنعه له، أراد لهذا الصّندوق أنْ يعيشَ أطولَ زمنٍ ممكن، ولهذا الإنجيل أنْ يُعمّر إلى زمن العثور عليه في مستقبلٍ لا يعلمه إلاّ الله.

كان يريد الانقطاع عن كلّ شيءٍ إلاّ عن الله. لم يكنِ الوحيد الّذي فعل ذلك، كثيرٌ من الّذين فرّوا بدينهم من بطش الأباطرة فعلوا ما فعل. تركوا لهم الدُّنيا، وركضوا إلى الآخرة كأنّ الدّنيا جربٌ يُعدي. أراحوا أنفسهم من التّفكير بمشاغل المال والرّزق والنّشب والعَرَض، وعرفوا أنّه زائل، وانشغلوا عن ذلك بالرّوح والفكرة ومناجاة الرّبّ، وعرفوا أنّه باقٍ. أبصروا طريقَين، فاختاروا الطّريق الصّاعد إلى الجبال، وتركوا طريق الوديان الهابطة للنّاس يهيمون فيها وهم فَرِحون، كانوا يعرفون أنّ الدّنيا ثقيلة، فتخفّفوا من أحمالها ليستطيعوا الوصول القمم، لو أخذوها معهم لأبطأتْ سيرهم، ولعاقتْهم، ولتركتْهم لتعبهم يستريحون من وطأتها في كلّ حين.
 

عاشَ في الكهف أكثرَ من عشرِ سنين، يُصلّي، ويبكي، ويرجو اللّحاق برفقائه، ويقرأ في إنجيل بطرس. ويأتيه روحٌ من الله فيربط على قلبه، فيصبر على ما فيه. وبعد السّنين العشر لحقه قومٌ فرّوا كذلك بدينهم، فقال لهم: كهوف الجبال كثيرة. فردّوا: ولكنّه لا عِلمَ فيها، وإنْ خلونا إلى أنفسنا من دون علمٍ سهُلَ على الشّيطان أنْ يُعلّمنا، وأنْ يُزيّن لنا أعمالَنا. فرضيَ أنْ يُقرِئهم من الإنجيل في كلّ أسبوعٍ مرّة، حتّى يستقرّ في قلوبهم ما استقرّ في قلبه، فيكونوا على ردّ الأهواء والشّياطين أقدر.
 

بعد عشر سنواتٍ أخرى صار صعبًا عليه أنْ ينزل إلى الدّنيا الّتي تموج بالبشر وبالخطايا في الأسفل، لكنّه كان ينصح الّذين يُعلّمهم ألاّ يمكثوا طويلاً في الكهوف، وأنْ يعودوا إلى النّاس فإنّما يحيا العلم بنشره لا بكتمه في الصّدور، وإنّ المسيح ليُرضيه أنْ تعمّ رحمته في تعاليمه النّاس أجمعين. وتأسّستْ بذلك طائفة من اليوسفيّين الّذين أعادوا للمسيحيّة دورها في الحياة في نهاية القرن الأوّل الميلاديّ. إنّه لولا الفهم العميق لبطرس، ومن بعده ليوسف لظلّت الشّعلة تخبو بموت من كان يحملها، إنّه لا بُدّ من إنتاجِ حملةٍ جُدُدٍ للشّعلة حتّى لا تنطفئ بتعاقب السّنين.
 

هَرِمَ حتّى استحيتْ منه السّنون أنْ تبقَى تعمل في جسده، جسده الّذي تهالكَ حتّى لم يعدْ يقوَى على فِعلِ شيءٍ غير الصّلاة. كان يعلم أنّ اللّحاق بالصّالحين قد أزف، يعلم ذلك من وجه السّماء الّتي صارتْ تُطالعه في الأيّام الأخيرة، إنّ المسيح ينتظره مع طائفة الصِّدّيقين، وإنّ أرائكهم معروفةٌ بالاسم، مُهيّاةٌ لكلّ واحدٍ منهم، وإنّ مقعده ما زال شاغِرًا، يتزيّن له، ويتهيأ. وإنّه إلى لقائه لمشتاق.
 

أرادَ أنْ يكتبَ رسالةً إلى يوحنّا، لكنّ يوحنا لا يعرفه، وإنْ كان هو يعرفه كما كان يعرفُ معلّمه بطرس. أرادَ أنْ يقول له، إذا وصلتْكَ رسالتي فصلِّ لروحي، فإنّك الرّسول الوحيد الّذي عرفتُ أنّ أنفاسَه ما زالتْ تُعطّر هواء هذا الكون، وتهبه البركة. لكنّ ذلك لم يحدث. قال ذلك في عقله، واكتفى بأنّ يوحنا لا بُدّ أنْ تعمّه صلواتُه حتّى ولو لم يكنْ يعرفه من قبل.
 

أرادَ "المسيح" أنْ ينام ليرتاح قليلاً، لكنّه عرفَ أنّ الرّاحةَ ليستْ هنا، بل هناك، وأنّ تعبَ اليوم وكلّ ما مرّ من تعبٍ عبر عمرٍ طويلٍ ستمحوه نفحةٌ واحدةٌ من نفحات الجنّة في لقاء الأحبّة.

كان بخطّ يده، مكتوبًا بعناية. وبصبرٍ شديد، وعلى مدى سنوات القلق، والمُطاردة، والمعاناة، والإيمان المسيحيّ العميق، قبّله وأدام النّظر فيه، كأنّه لن يراه من بعد، وضمّه إلى صدره كأنّه سيفارقه فراقًا لا عودة منه، وتلمّسه كأنّه حبيبٌ على وشك الرّحيل من بين يديه، فأطال لمساته ودموعه تتحدّر على خَدّيه اليابِسَين، شعر بحرارة الدّموع، وراح يمسحها وهو يحاول أنْ يرسم بسمةً بدلاً منها. الفراق بين جسدَين صعبٌ وأليمٌ لكنّه في النّهاية قد يُحتَمل، لكنّ الفراق بين روحٍ وجسد هو الأكثر ألمًا في مستويات الألم الّتي قد يشعر بها إنسان، فكيفَ بقلبِ هذا العباد الجليل.
 

وضع الإنجيل في صندوقٍ كان قد طلبَ منذ سنواتٍ من أحد مريديه أنْ يصنعه له، لم يكن من الحديد ولا من الخشب، كان من الرّخام، أراد لهذا الصّندوق أنْ يعيشَ أطولَ زمنٍ ممكن، ولهذا الإنجيل أنْ يُعمّر إلى زمن العثور عليه في مستقبلٍ لا يعلمه إلاّ الله. لفّ الإنجيل بغلافٍ من الجلد، وربطه ربطًا مُحكَمًا، وأودعه في الصنّدوق الرّخاميّ، وقبّله القبلة الأخيرة، ثُمّ دفنه في الكهف عندَ موضع رأسه، وراحَ يتلو الصّلوات ودموعه تسبح فوق وجهه المتغضّن.
 

تعب. أرادَ أنْ ينام ليرتاح قليلاً، لكنّه عرفَ أنّ الرّاحةَ ليستْ هنا، بل هناك، وأنّ تعبَ اليوم وكلّ ما مرّ من تعبٍ عبر عمرٍ طويلٍ ستمحوه نفحةٌ واحدةٌ من نفحات الجنّة في لقاء الأحبّة، فآثر أنْ يظلّ راكِعًا يُصلّي، حتّى إذا اقتربَ الفجر، شعر أنّ طائرًا يرفرف بجناحَيه على باب الكهف، وأنّه يقف على الباب يستأذنه بالدّخول. دخل، لم يكنْ طائرًا، كان ملاكًا، هل كان يحلم من تعب الصّلاة وإدامة الرّكوع؟! ربّما. لكنّه أحسّ أنّه خفيف الجسد، وأنّ الملاك قد حمله بين يدَيه، وحلّق به عالِيًا في السّماوات الّتي كانت النّجوم فيها تلألأ خفيفةً، كأنّها ترحّب به قادِمًا نحوها، وتأذن للفجر بالبزوغ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.