شعار قسم مدونات

الحجاب عبادة أم مسؤولية مجتمعية؟

BLOGS- الحجاب
شرّعت الديانات السماوية العبادات والفرائض لغاية تحقيق كمال العبودية لله عز وجل، والانصياع التام لأوامره، وكذلك فعل الإسلام عبر منظومة عبادات القلب والجوارح. فطُلب من المسلمين الصيام بالامتناع عن الطعام والشراب تحقيقاً لغاية التقوى، وهي أعلى مراتب الخشية من الله، كما نصّت الآية الكريمة في سياق فرضية الصيام "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
 

في عبادات كالصوم والحج -وغيرها- لم يرد نصّ قرآني أو نبوي صريح يكشف لنا الحكمة المادية التي من أجلها فرض الله هذه العبادات.. أو لماذا فُرضت بالكيفية والمواصفات التي نعرفها. ومع تقدم العلم، تكشّفت لنا الكثير من فوائد الصيام على صحة الجسد، لكن الخطاب الإسلامي لم يجعل الحكمة الصحية للصيام أساساً في إقناع الناس بفرضيّته "كونه فرضا" أو الحث على الالتزام به.. وبقي جوهر الخطاب يركز على أنّ الحج والصيام، بالكيفية التي نعرفها، هما فريضتان يتحقق بهما معنى العبودية لله والانصياع لأوامره.
 

لكن الخطاب الإسلامي لم يتعامل بنفس المنطق مع مسألة حجاب المرأة، إذ بقي الدُعاة على مرّ العصور يسوقون الحكم المُفترضة لإقناع المرأة بارتدائه، أو تفويض المجتمع وولي الأمر بفرضه.. فمَرّة هو وسيلة لحماية المرأة من المضايقات والحفاظ عليها من "الذئاب البشرية"، ومرّة هو مسؤولية تؤديها تجاه المجتمع لصيانته من الفتنة والانحلال الأخلاقي، بينما ذهب البعض إلى اعتباره هوية تتميز بها المرأة الخلوقة عن غيرها.
 

يُخفق الخطاب الدعوي في تفكيك الأسئلة الكبرى.. ففي حين يجعل الحجاب مسؤولية تجاه المجتمع؛ يتجاهل أن هذه الحجة تُسقط الحجاب ولا تدعمه في المجتمعات المنحلة أخلاقيا.

باختصار.. لم يبقَ الحجاب في الخطاب الإسلامي كغيره من العبادات.. فلم يُقدّم كالتزام تؤديه المرأة تجاه الله عز وجل بهدف تحقيق كمال العبودية لله؛ بل تمّ إيراد عشرات التفسيرات والأسباب البشرية لهذه الفريضة. وبذلك تم تحويل مسألة الحجاب من كونها فردية تخصّ صاحبتها إلى كونها مسألة اجتماعية، يحق للمجتمع التدخل فيها، وفرض وصايته عليها ما دامت شأناً عاماً.. وساهمت طبيعة الحجاب بكونه مظهراً يستحيل إخفاؤه بتعزيز تحويله إلى قضية عامة.
 

والحقيقة أن تفسير حكمة حجاب المرأة ليس بالشيء الخاطئ، فهو يُساعد الكثيرات على الاقتناع به والاقبال على ارتدائه، لكن الاشكالي هو المغالاة التي تحرّف جوهر الحجاب من كونه "عبادة" إلى كونه "قضية اجتماعية وأخلاقية" تستمد أسبابها من حاجات المجتمع ومزاجه العام.
 

فكلما أخفق المجتمع بعملية الاقناع واجتراح الحكم المفترضة للحجاب، أو توسعت الفجوة بين سردية الحجاب في الخطاب الديني وحاجات المرأة وهمومها، كلما وجدنا أن فرضية الحجاب تسقط من قناعة الكثير من الفتيات، لا سيما اللواتي تحجبن بوصاية المجتمع المباشرة أو المقنّعة، ثم خلعن الحجاب معنوياً بالخروج عن شروطه ومواصفاته، أو خلعنه مادياً في مشهد تمرد على العادات.
 

ويكمن الخطر في تحويل الحجاب من "عبادة" إلى "قضية اجتماعية" في تحويل دافع المرأة نحو الحجاب من مجاهدة النفس من أجل طاعة الله، إلى مجاهدة المجتمع. والواقع أن السمة الغالبة من الناس تتورع عن تحدي أوامر الله حتى عندما تخرج عن طاعته، لكنها لا تجد الحرج ذاته في تحدي المجتمع وتقاليده.. ومن هنا نجد أن غالبية حالات خلع الحجاب التي صرنا نطالعها اكتسبت صفة التحدي والتمرد، واعتمدت مبدأ الاشهار وأحياناً التبشير بالفكرة، لأن البعض نجح بجعل الحجاب معركة اجتماعية بامتياز.

ولا تكمن خطورة هذا الأمر على المتشككات بالحجاب فحسب، إنما تزيد الضغط على بقية المحجبات.. فالصور التنميطية للمحجبة التي يطفح بها الخطاب الإسلامي، عدا عن كونها ساذجة ومنفرة، فإنها تضرب فكرة الحجاب في قلبها.. فمثلاً، سرديات الجوهرة المصونة والحلوى المغلفة ليست سوى وصفات لعزل المحجبة ووسمها بالاستكانة، وهي ذات الاتهامات التي ينفذ منها محاربو الحجاب، وتتناقض مع وظيفته في تحييد هوية المرأة الأنثوية لمساعدتها على الانطلاق الآمن في المجتمع.
 

ويُخفق الخطاب الدعوي في تفكيك الأسئلة الكبرى.. ففي حين يجعل الحجاب مسؤولية تجاه المجتمع؛ يتجاهل أن هذه الحجة تُسقط الحجاب ولا تدعمه في المجتمعات المنحلة أخلاقيا.. وحين يجعل حكمة الحجاب هي حماية المرأة من الأذى؛ لا يجيب عن آلاف الحالات يكون فيها الحجاب هو سبب الأذى.. كما ينفي فكرة أن الحجاب يُعيق النجاح، وفي الوقت نفسه لا يرسم للمحجبة حدود ما يتوجب عليها فعله أو الامتناع عنه، في حال اصطدم نجاحها بمطلب خلع الحجاب أو تكييف شروطه مع متطلبات معينة.
 

ولتغطية هذا القصور، يعمد إلى التناول السطحي لما يسميه قصص نجاح المحجبات ضمن قوالب دعائية أقرب للتبسيط وأبعد عن تفكيك التحديات، فتخفق تلك القصص في ملامسة الواقع، وتسهم بترسيخ كون الحجاب عائقاً والنجاح استثناءً.
 

الحقيقة أن الحجاب عبادة كغيره من العبادات، لا يترتب عليه سوى كون المرأة أرادت الالتزام بأوامر الله عز وجل واحترام تعاليم دينها، ولا يعني وضعُه أنها تريد عكس هوية دينية أو سياسية أو اجتماعية.

وفي المجتمعات التي لا ترحب بالحجاب أو تحظر ارتداء الرموز الدينية "المدارس الفرنسية مثالا" يرفض الخطاب الإسلامي ونرفض جميعاً أن يتم تصنيف المرأة وفقاً لغطاء رأسها، وننادي بكون الحجاب حرية شخصية لا رمزا دينيا.. لكن الخطاب الدعوي يقع في لبس رهيب حين يغذّي المرأة بمقولات تدعم كون الحجاب هوية تميز المسلمة وتعكس معتقداتها.
 

والحقيقة أن الحجاب عبادة كغيره من العبادات، لا يترتب عليه سوى كون المرأة أرادت الالتزام بأوامر الله عز وجل واحترام تعاليم دينها، ولا يعني وضعُه أنها تريد عكس هوية دينية أو سياسية أو اجتماعية.. والمبالغة في تحميل الحجاب معانٍ أكثر مما يحتمل، لا يعني سوى مزيد من التصنيف والتمييز تجاه المحجبات.
 

قد لا يعجب الكثيرين الكتابة في موضوعات المرأة والحجاب، لأن البعض جعل منها وسيلة للثرثرة ولفت الانتباه، لكني اخترت أن أكتب لأننا أمام جدل حقيقي حول مسألة الحجاب لا داعي لإنكاره. قد لا أمتلك العلم الكافي لاقتراح حلول فقهية ودعوية، لكننا نستطيع إثارة هذه الأفكار لنحث على التفكّر واجتراح الحلول، أو على الأقل لنشجب أسلوب "سد الذرائع" الذي أصبح سمة تصبغ الفقه والخطاب الإسلامي المتعلق بقضايا المرأة وغيرها من المسائل الجدلية.
 

والخشية أن اللجوء الطويل لمبدأ سد الذرائع في تكميم المراجعات الدينية لشروط الحجاب والخطاب المنظّر له، سينقل الجيل الجديد نحو أسئلة تشكك بفرضية الحجاب، وتسعى لنقض شرعيته من الأساس.. وهو ما لا نتمناه جميعاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.