شعار قسم مدونات

المصرية التي لا تجيد الرقص

blogs-اختلاف
في نهاية اليوم الخاص بمشاركة الثقافات العالمية تحلقت الفتيات حولي على الطاولة الأخيرة من الصف، تتطوع واحدة منهن بربط خصري بالحجاب، وبدأن بالتصفيق؛ كي أبدأ بالرقص أهز رأسي بالنفي، وأكرر مطلقا: لن أفعل، يصفقن لإشعال الحماس، أخبرهن بأنني لا أجيد الرقص، يأتي صوت غاضب من الحلقة التي تشكلت حولي: "كيف؟! مصرية وما تعرف ترقص!" بتأفف تفرق الجمع الصغير.

 

لم أكن أكذب حينها، ولم أكن على خوف من أن تعرف المعلمة التي ترى في كل شيء جانبا من التحريم، كنت أقول الحقيقة وفقط، لم يفارق المشهد رأسي حتى كبرت.

 

سألت نفسي مرارا ما الذي يعرفه الناس عن بعضهم البعض حتى يتم قولبتهم ورصهم في صناديق بهذا الشكل؟ مصرية إذًا تجيد الرقص، وهي من شارع الهرم، كذلك بلا شك، والحلبة هي مشروبهم الرسمي، بل هي خمرتهم المفضلة، سعودية إذا هي غبية بشعر ناعم طويل حتى أردافها، يصرف عليها ببذخ ولا تفقه شيئا، دوما مستواها الدراسي أقل مني كمصرية، سورية إذا هي جميلة، شعرها أصفر، مغنجة لا

كنا نتعرض لكل هذا القدر من العنصرية باختلاف جنسياتنا، بل إن جنسيتي كانت هي المسبة التي تطلق علي، كنت أبكي كثيرا حين يحدث شجار بيني وبين واحدة ممن لديهن جنسية البلد الذي أقيم فيه

تعرف سوى الدلال، وطوال اليوم تسمع كلمات والدتها لوالدها من قبيل: "يقبرني ابن عمي"، وهي زوجة جيدة بلا شك، وفي وقت لاحق حين يصير بلدي منفى لها ستعامل كبضاعة، وستعرض عليها المساعدة في شؤون حياتها، وفي وقت لاحق سيعرض عليها الارتباط كثمن لهذه المساعدة، وستراها المرأة في بلادي خطافة رجال، وسيتعامل عدد لا بأس به من الرجال المصريين مع السوري على أنه أخذ اللقمة من يده، وسأسمع أحدهم ينتظر دوره في محل الشاورما التي يصنعها السوري يقول لرفيقه: أخذ منا السوري هذا مكاننا في سوق العمل، أما عن السودانية فسنخبرها بأنها كسولة، هذه صفة تلتصق بأي سوداني، إلى حد أنها كانت مسبة بعينها: "يا سودانية".

 ماذا تبقى؟

 يمنية؟

 حسنا.. لن نكف بين وقت وآخر أن ينادي أحد ما حين تمر، ويقول يا علي مع مد المسافة بين اللام والياء.

 

كنا نتعرض لكل هذا القدر من العنصرية باختلاف جنسياتنا، بل إن جنسيتي كانت هي المسبة التي تطلق علي، كنت أبكي كثيرا حين يحدث شجار بيني وبين واحدة ممن لديهن جنسية البلد الذي أقيم فيه؛ لأن الشجار كان ينتهي بمسبة: "يا مصرية" وكان هذا يزعجني، إلى حد أن يقوم العراك بالأيدي.

 

 بسببه تكلمت معي أمي كثيرا، بأن جنسيتي ليست مسبة، ولم أكن حينها بوسعي أن أخبرها أنها تقال بلهجة المسبة وبنظرة الاستعلاء والكبر، وكأن جنسيتهن صك من صكوك الجنة.

 

ليس علينا أن نحمل الآخر ذنب اختلافه عنا، لا بأس أن يسعنا الكون برغم كل ما لا نتشابه فيه تحديداً، إن كان ما نختلف فيه ليس اختيارا يختاره المرء

لم ينته كل هذا القدر من التنابز بالجنسيات حتى وصلت الثانوية، كنا حينها على قدر كاف من تقبل الآخر والاستمتاع باختلاف الثقافات، كان بالصف عشرات الجنسيات التي تعاملت معها، خرجت منها بالنهاية أنه لا شيء ثابت، وأن كل شخص في حد ذاته هو حالة مختلفة، وأن الجنسية ليست هي الكيان الحقيقي للشخص، وأن الشعر المجعد والشعر الناعم لا علاقة له بمكنون الرأس، وأن الإنسانية لا تتجزأ، وأن التصنيف الوحيد الذي يمكن أن أقبل به أو أطلقه على من يختلف عني لهجة أو شكل أو لون هو أنه إنسان، ومقتضى الإنسانية أن أعاملك كإنسان بغض النظر عن دينك وشكلك ولونك وأفكارك، وقد رأينا أن دين الإنسانية أوسع وأشمل من اللون الواحد والعرق الواحد واللغة الواحدة، بل والبلد الواحد.

 

في العمل، في الشارع، في الحب، في العلاقات الاجتماعية، في كل شيء كانت الصناديق جاهزة دوماً لدفني فيها بألف حكم وحكم دون كشف لحقيقتي كإنسان، كنت أحسب أن الأمر يحدث معي لأن جنسيتي مختلفة، حتى عدت لبلدي وضعني الناس في صندوق كبير، ثم أعادوا تعليبي في صندوق أصغر، وهكذا إلى ما لا نهاية من أول صندوق مغترب الذي تتحول معه لغريب عن المكان لا يفهم معاناة الناس هنا ولا يفهم مزاحهم ولا نكاتهم ولا شتائمهم، حتى لهجة حديثك بها عوج؛ مما يجعل التعليقات السخيفة تتكرر بين وقت وآخر، ثم نظرا لاختياري نمطا معينا في الملابس أو في الحجاب تم تصنيفي كإسلامي وبداخل الإسلاميين هناك عدد لا ينتهي من التصنيفات التي يصرح بها والتي يحكم بها على الآخر دون تصريح، ومن ثم توالت التصنيفات من كل حدب وصوب.

 

 تقوقعت طويلا؛ تجنبا لهذه التصنيفات ثم اعتدتها وصار الأمر لا يزعجني، ولا أستنكر تعامل الناس مع اختياراتي في الحجاب أو في الدين أو في السياسة، بالطبع يمكننا أن نختلف في كل التفاصيل، لكن لا أحد هنا يمكنه أن يحكم على الآخر؛ بسبب اختلافه، لقد اختار الله لنفسه مهمة الحكم؛ ولذا فعليك أن ترتاح وتقر عيناً فهذه ليست مسؤوليتك.

 

لا أريد أن يعاملني المجتمع بإنصاف، هذا لن يحدث، أدرك ذلك أحيانا، أتمنى ألا يعاملني المجتمع تماما؛ لكي أتجنب تصنيفاته، ألا يميزني، وألا يضعني في صندوق، ألا يحكم عليَ بأن يكف يده وتصنيفه عني.

 

لحسن حظي لم تكن تصنيفات مشينه التي لصقت بي، أدركت هذا مع الوقت لكن ماذا عن الذي يوصم بتصنيف وتصدر على أنها مشينة؟ ماذا عن المطلقة؟ ماذا عن المريض النفسي؟ ماذا عن صاحب الاحتياج الخاص؟

 

ليس علينا أن نحمل الآخر ذنب اختلافه عنا، لا بأس أن يسعنا الكون برغم كل ما لا نتشابه فيه تحديداً، إن كان ما نختلف فيه ليس اختيارا يختاره المرء، لا أحد يختار موطنه، ولا لون جلده، ولا انسيابية شعره من تجعده، لا أحد يختار هذه الأشياء، بل علينا أن نتصالح مع تلك الاختيارات التي قرر غيرنا سلوكها، ولم تفرض عليه؛ حيث الحياة أوسع من حصرها في لوني الأبيض والأسود، وحيث إنا لم نصنف كآلهة بعد.

 

حرر عقلك من ظلماته التي بعضها فوق بعض، ودعك من الصناديق الجاهزة السهلة التي نصنف فيها التوابل، فالإنسان ليس ضمن التوابل على أية حال

كنت أفكر في السبب الذي يدفع الناس لقولبة بعضهم البعض، ورص الآخر في صندوق داخل صندوق، إن هذه الطريقة في التفكير تشعرهم بالأمان، تشعرهم بأن الآخر متوقع ومألوف، وتبعاً لتصنيفه فلن يصدر منه سلوك يخالف هذا التصنيف، وهذا يبقيني في أمان حين أتعامل معه أو أتخذه "كتالوج" حياة.

 

لكن ما الذي يحدث حين يخل الذي تم تصنيفه بمقتضيات هذا التصنيف؟ تحل عليه اللعنات، يقول الناس: لقد تغير فلان، لقد انتكس، لقد غادر الصواب، لقد ابتعد عن أخلاقه أو عن سلوكه المعتاد أو عن مبادئه. لا هذا ليس صحيحا، لقد اختار اختيارا لا يتناسب مع تصنيفك الذي طلبته منه، وهذا كل ما في الأمر، وهذا ما يحدث طوال الوقت، يختار الناس اختيارات تشبه سلوكهم المعتادة أو لا تشبه.

 

لا أحد هنا مجبر على نفس السلوك طوال الوقت ليرضي تصنيفك له؛ لأنه لا أحد هنا يدين لك بشيء، لا تدين لك المصرية بأن تجيد الرقص، ولا السعودي بأن يملك المال، ولا السوداني بالكسل.

 

حرر عقلك من ظلماته التي بعضها فوق بعض، ودعك من الصناديق الجاهزة السهلة التي نصنف فيها التوابل، فالإنسان ليس ضمن التوابل على أية حال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.