شعار قسم مدونات

ميكانو-ديستوبيا

blogs - robot

(1)

"أذكر تفاصيل الأمر وكأنه حدث بالأمس. لقد كان ذلك صبيحة العام 20XX."

نوبة من السعال الشديد تنتاب العجوز. وكأن الغبار الذي ملأ المكان يتآمر عليه ليمنعه من استكمال حديثه. عيون الأطفال لاتزال مسمّرة على وجهه.. أو بالأحرى على لحيته، الشيء الوحيد الذي بدا ظاهرًا وسط ظلمات المخبأ. تجول ببال طفل خاطرة أنه ينصت للحية مُتحدثة مُعلقة في الهواء، فتنفلت منه ضحكة قصيرة لا ينتبه إليها أحد.

 

"في ذلك العام، شهد البشر الميلاد الأول. ميلاد الوعي السيليكوني الأول."

يصمت العجوز، ثم يحدق في الطفل الجالس أمامه. يشعر الطفل بعدم الارتياح في البداية، ثم تهدأ نفسه بعد أن ينتبه للأمر. العجوز لم يكُن ينظر إليه، وإنما كان ينظر خلاله. العجوز كان ينظر للماضي البعيد الذي أتى منه.

 

يملأ العجوز رئتيه بنفس عميق كمن يُوشك على الركض، ثم يستطرد:

متى أصبح من الطبيعي أن نستعمل كلمة "استبدال" عندما نتحدث عن البشر كما نستعملها عندما نتحدث عن الأحذية؟ لا، بل متى أصبحت مسارات حيوات البشر عبارة عن مراحل خط إنتاج في مصنع؟

"احتفلنا. احتفلنا كما لم نفعل من قبل. "وصلنا!".. هذا ما حدثتنا به أنفسنا. هذا ما حدثتني به نفسي. طاردت هذا الأمر عقودًا، وطاردني عقودًا، وكان أن وصلت. كان أن وصلنا. في تلك اللحظة أدركنا أن علاقتنا بالآلات ستتغير للأبد. هي لم تعد تلك المخلوقات الميكانيكية الجوفاء، وإنما أصبحت تمتلك نفسًا. نحن منحناها تلك القدرة. لقد كانت تلك النُقطة هي أقرب ما وصل إليه البشر من نفخ الروح."

 

يتوقف العجوز عن الكلام وكأنما استنفذ جُرعة الهواء التي دفع بها إلى صدره. يتحرك رأسه ببطء ناحية السقف، ثُم يتوقف عند موضع مُعين. يتطلع العجوز طويلًا.. طويلًا.. طويلًا.. حتى يُخيل إلى الأطفال أنه لن يُنزل رأسه أبدًا. تتحرك رؤوس الأطفال بتزامن غير مقصود لتتوقف عند ذات الموضع.

 

"لقد كانت تلك هي بوابة الفردوس التي بحثنا عنها طوال الوقت، وها نحن أخيرًا قد أمسكنا بالمقبض. لم نتردد أبدًا في فتح البوابة على مصراعيها. لا، بل لم نتردد في انتزاع البوابة بأكملها. لقد انتظرنا تلك اللحظة طويلًا.. ما لم نكن نعلمه في ذلك الوقت هو أن الجانب الآخر من البوابة كان مُتصلًا بالجحيم، وأنه بانتزاعنا إيها، لم يعُد هُناك سبيل لمنعه من القدوم إلينا."

 

(2)

يبدو المشهد السابق مألوفًا، أليس كذلك؟ في النهاية، فالسايبر-ديستوبيا Cyber Dystopia هي أحد الديستوبيات المُفضلة لدى كُتاب الخيال العلمي. ذلك المُستقبل المُظلم الذي تُطور فيه الآلات وعيًا، ثُم تبدأ بالمُطالبة بحقوقها، ثُم في النهاية بأحقيتها في حُكم الكوكب بدلًا من البشر.

 

تشابه أفكار الكُتاب فيما يتعلق بالسايبر-ديستوبيا لا يرجع لتوارد أفكارهم، وإنما لاصطدام أفكارهم بحائط لم يتمكنوا من اجتيازه. عندما يتحدث الجميع عن تصور معين لفترة طويلة، ومع عدم وجود معرفة عميقة بما يتم التحدث عنه، يُصبح من الصعب التفكير في تصور آخر. في الحقيقة هذا الأمر لا يقتصر على غير المُتخصصين فقط، بل يشمل الأكاديميين ممن يعملون في مجال الروبوتيات والذكاء الاصطناعي.

 

السايبر-ديستوبيا كما تصورها أدبيات الخيال العلمي لن تحدث. الآلات السيليكونية لن تمتلك وعيًا. هي لن تتمكن من تطوير ذكاء بشري او غير بشري. هذا الأمر لن يحدث عاجلًا أو آجلًا. لم يكُن بإمكاني الجزم بهذا الأمر في السابق، ولكن بإمكاني فعل ذلك الآن بما أنني قضيت السنوات الأخيرة في دراسته على مستوى أكاديمي. الأمر لا يتعلق بنوع التقنية التي لدينا ولا مدى تطورها، وإنما يتعلق بعجز جوهري في طبيعة هذه الآلات لا يُمكنها تخطيه.

 

هذا لا يعني أن الوعي الاصطناعي كمفهوم مُستحيل بصُورة مُطلقة؛ أنا أتحدث هنا عن استحالته عبر المُقاربة المُستخدمة حاليًا، والتي بنى عليها كتاب الخيال العلمي تصوراتهم. هذه المُقاربة -الحواسيب السيليكونية- لم تتغير منذ 6 عقود، ومن غير المُتوقع أن تتغير في المستقبل القريب.

 

الآن قد يسأل سائل؛ "وما قولك في التطورات الأخيرة في الذكاء الاصطناعي؟ ألا ترى أنه قد استبدل الكثير من البشر مجالات كانت حكرًا على البشر فقط في الماضي؟"

 

هذا الصحيح، وهو أمر مُقلق بالفعل، ولكن ليس للسبب الذي تعتقده. هو مقلق لأنه يشير إلى أنه بينما كان البشر مُنشغلون بديستوبيا لن تحدث، فلقد بدأت بالفعل ديستوبيا من نوع آخر.

 

(3)

ميكانو-ديستوبيا Mechano-dystopia. هذا هو الاسم الذي أجده مناسبًا.

الميكانو-ديستوبيا هي ذلك المُستقبل المُظلم الذي يختفي فيه الحد الفاصل بين البشر والآلات ليس بسبب ارتقاء الآلات لرتبة البشر، وإنما لانحدار البشر لمستوى الآلات. هو ذلك المستقبل الذي يتشابه في البشر والآلات ليس لاكتساب الآلات وعيًا بذاتها، وإنما لفقدان البشر لوعيهم بذواتهم. هو ذلك المستقبل الذي يُصبح فيه الفرق بين الإنسان والآلة هو الهيئة الخارجية فحسب.

 

من المُثير للسخرية أن هذا السيناريو هو النقيض المُباشر لكُل ما تصوره أدبيات الخيال العلمي، وعلى الرغم من ذلك فلقد بدأ في الحدوث بالفعل دون أن ننتبه حتى. لا، رُبما هو يحدث لأننا لم ننتبه.

 

نحن نُشاهد بأعيننا بداية الميكانو-ديستوبيا. السبب في أنه أصبح بالإمكان أتمتة الكثير من الأشياء هو أن البشر قد تحولوا بالفعل إلى أشباه آلات لدرجة أن الآلات الحقيقية بدأت في استبدالهم. من ناحية الأداء، فالبشر آلات سيئة للغاية. هُم آلات مُكلفة، وتعترض عندما تعمل لساعات طويلة، وحتى عندما لا تعترض فهي تتعب وتمرض وتقل إنتاجيتها. الحل إذًا في استبدالهم، وهو ما يحدث.

 

الميكانو-ديستوبيا هي ذلك المُستقبل المُظلم الذي يختفي فيه الحد الفاصل بين البشر والآلات ليس بسبب ارتقاء الآلات لرتبة البشر، وإنما لانحدار البشر لمستوى الآلات

متى بدأ هذا الأمر؟ متى أصبح من الطبيعي أن نستعمل كلمة "استبدال" عندما نتحدث عن البشر كما نستعملها عندما نتحدث عن الأحذية؟ لا، بل متى أصبحت مسارات حيوات البشر عبارة عن مراحل خط إنتاج في مصنع؟

 

حاول أن ترسم مسار حياتك المتوقع من الميلاد إلى الرحيل على ورقة، واطلب من مجموعة من الأصدقاء أو المعارف القيام بنفس الأمر، كل على حدة. الآن، لدينا سؤال مُهم: ما هي احتمالية أن "تتطابق" أغلب المراحل الرئيسية في مسار حياتك (أو كلها!) مع شخص آخر؟ رياضيًا، من المُفترض أن تكون الاحتمالية هي 1 على 7 بليون.. ولكن هل هذا ما ستحصل عليه؟ بدون أن تقوم بالتجربة حتى أنت تعلم الإجابة؛ ستحصل على تطابق مُربك. مُربك للغاية.

 

تطابق بهذه الصُورة لا يحدث في العادة إلا في سياق واحد: الآلات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.