شعار قسم مدونات

عن العقل والطبيعة

blogs تأمل

نحن البشر لا نملك سلطة تخولنا طرح الأسئلة على الطبيعة. فعندما نسأل فنحن لسنا -كما يريد "كانط" من العقل أن يكون – في وضعية القاضي عندما يستجوب المتهم. ليس في العقل الإنساني ما يجبر الطبيعة على الإجابة عن أسئلتنا، وليس بالضرورة أن هناك إجابات في الطبيعة أو في أي مكان آخر للتساؤلات التي تدور في رؤوسنا. بل، يمكن أن تكون بعض أسئلتنا بلا مدلول واقعي، أي لا معنى لها في الواقع الموضوعي خارج العقل الإنساني، فضلا عن أن تكون لها إجابات.

 

لنتخيل مخلوقات أخرى تملك شيئا يُعادل ما نسميه نحن "التساؤل بالنسبة لها"، ولكنه يختلف عن الطريقة التي نفكِّر ونتساءل بها نحن البشر. في هذه الحالة قد لا يكون هناك مقابل في وعينا لما تعتبره هذه المخلوقات تساؤلاً، وقد لا يمكن حتى ترجمته إلى عقولنا. فماذا يُمكن أن تعني التساؤلات في الطبيعة بمعزل عن وعينا ووعي تلك المخلوقات.

 

عندما يملك المعنى ماهية مستقلة عن ذهن الإنسان الذي يحمل هذا المعنى يعني الأفكار والمعاني ليست ذاتية دائما، بل تملك طبيعة موضوعية متجاوزة للأفراد ومستقلة عن اللغة

ولكن لماذا نذهب بعيدا بافتراض مخلوقات أخرى مختلفة عنا. ففي مقال سابق تكلمت عن الوعي الذاتي، وتساءلت عن إمكانية أن تكون تجارب الوعي بالذات للبشر المختلفين مختلفة فيما بينها. يُمكن أن نقول هنا الشيء نفسه بالنسبة للتفكير والتساؤل. فعلى الرغم من أن التساؤل يمكن أن يكون بالكلمات نفسها، إلا أن واقعه في الذهن قد يكون مختلفا.

 

إن الكلمات المختلفة يُمكن أن تقول نفس الشيء، وهذا يعني أن المعنى يُمكن أن يوجد في مستوى مستقل عن اللغة. ولكن هل يُمكن أن يوجد المعنى مستقلا عن الطريقة التي يفكِّر بها الأفراد أيضا؟ فأن يملك المعنى ماهية مستقلة عن ذهن الإنسان الذي يحمل هذا المعنى يعني الأفكار والمعاني ليست ذاتية دائما، بل تملك طبيعة موضوعية متجاوزة للأفراد ومستقلة عن اللغة، وهذا يدل على وحدة العقل. ولكن حتى لو كانت هناك وحدة للعقل البشري، فإن مشكلة علاقة هذا "العقل الواحد" مع الطبيعة تظل قائمة.

 

أما إذا كان هناك اختلاف في الواقع الذهني للأفكار والتساؤلات، بمعنى أن ما تعبِّر عنه اللغة بنفس الكلمات هو في الواقع الذهني أشياء مختلفة، لا بسبب قصور اللغة، ولكن بسبب طبيعة الذهن الإنساني، فإن العقل الإنساني في هذه الحالة لا يملك وحدة جوهرية متجاوزة للأفراد المتعينين. وتكون الطريقة التي يفكِّر بها أحدنا تتوقف على طبيعته الفردية، وليس على طبيعة للوعي أو العقل الإنساني متجاوزة للأفراد.

 

علي أية حال، يبقى الافتراض الأساسي هنا هو الانفصال بين الطبيعة كشيء نفكِّر فيه ونتساءل بشأنه، وبين الذهن الإنساني الذي يفكِّر ويتساءل. وإذا لم يكن ثمة ما يوحِّد الطبيعة والذهن الإنساني بنيويا فإن الأسئلة التي نطرحها بشأن الطبيعة ليست بذات معنى واقعي بالضرورة.

 

 لكي يكون الافتراض الذي بدأنا به خاطئا، يجب أن يمتلك العقل مشروعية وسلطة تجعل من أسئلته شيئا له معنى في الواقع. عندما نقول مثلا "كيف"، أو "لماذا" بشأن أمر يتعلق بالطبيعة، فيجب على الأقل أن يكون هناك ما يمنح هذه الأسئلة ما يقابلها في الطبيعة، أي أن يكون هناك في الواقع الموضوعي ما يبرر ويسمح وبطرح هذه الأسئلة حتى لو كان خفيا مستورا.

 

إن أسئلة الإنسان بشأن الكون والوجود بحاجة الى مشروعية، إلى أساس أنطولوجي يمنحها المعنى الواقعي خارج ذهن الإنسان، يجعلها أسئلة ممكنة الإجابة بواسطة لغة الكون والوجود
إن أسئلة الإنسان بشأن الكون والوجود بحاجة الى مشروعية، إلى أساس أنطولوجي يمنحها المعنى الواقعي خارج ذهن الإنسان، يجعلها أسئلة ممكنة الإجابة بواسطة لغة الكون والوجود
 

لنتخيل مثلا أن يكون الإنسان مندهشا بشأن ظاهرة معينة في الطبيعة: كيف يُمكن أن تحدث، ولماذا حدثت، ولا تكون هناك في الواقع أي إجابة لهذين السؤالين، لا بسبب قصور الإنسان، وإنما لأنه بالفعل لا توجد لها اجابات في الطبيعة، لأن الأسئلة تنتمي إلى واقع مغاير هو ذهن الإنسان الذي يتساءل، عالم آخر تماما لا علاقة له بالطبيعة.

 

هناك أسئلة يطرحها العقل ويجد لها إجابات في الطبيعة، كما في العلوم، ولكن هل بالضرورة أن كل سؤال سيطرحه العقل ستكون له إجابة، حتى لو لم تكن في متناول العقل؟ أو ما الذي يحتِّم على الوجود أن يشتمل على إجابات للأسئلة التي يطرحها العقل؟

 

إن أسئلة الإنسان بشأن الكون والوجود بحاجة الى مشروعية، إلى أساس أنطولوجي يمنحها المعنى الواقعي خارج ذهن الإنسان، يجعلها أسئلة ممكنة الإجابة بواسطة لغة الكون والوجود. بدون هذه المشروعية، ستكون أسئلتنا وتساؤلاتنا مجرد أحداث بلا معنى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.