شعار قسم مدونات

لا أنكرُ أنّني بعدَ كلّ هذا كفرت!

blogs - امرأة حزينة
لا أنكرُ يا الله أنّني بعدَ كلّ هذا كفرت،
كفرتُ بكلّ شيء، أشياء تستحق وأخرى لا ذنبَ لها،
ما عداك، ما عدا إيماني بك
حمزة حسن

كنتُ في كلّ مرةٍ تقفُ فيها الحياةُ عائقًا أمامي كسدٍّ منيع، أمتعضُ مخاطبةً الله عزَّ وجل، أحمّله ذنبَ كلّ عثراتي، قائلة: لِمَ أنا يا ربّاه، منْ بينِ كلّ الناس، اخترتَني لُتغلِقَ أبوابكَ في وجهي، لأواجهَ كلّ عثراتِ الدنيا بمفردي، لماذا تختبرني بما لا قوةَ لديّ على صدّه وتحمُّلِه، وأنتَ تعلمُ أنّني أضعفُ عندَ أوّل مطبّ، وأنحني مع أوّل خذلان. ثمَّ أعودُ لأستعيدَ لحظاتٍ كنتُ أعبدُ اللهَ فيها وأدعوهُ بصدق كيْ يحقق لي ما أريد، فأكتشفَ بعد وقت، أنّه لم يستجبْ لي ولم يحقّق ما أريد، فتُحجَبُ عنّي الرؤية حينها، وأنا أتلّمسُ مواطنَ الأذى في روحي، تتهشّمُ بداخلي الكثيرُ من الأشياء وكأنّني أربّي في باطني طاحونة، تستفيقُ عندَ أول طريقٍ مسدودٍ، مظلمٍ أعبرُ من خلاله. لتسحقَني وتمضي.

بقليلٍ من الإيمان وكثيرٍ مِن الشّك، وكمَن يحملُ أسفارًا مِن الخيبة، ألجأُ للانكماشِ والسّخط والتذمّر، أقيمُ "ماراثونًا" للشّكوى داخلي، أقطعُه جيئةً وذهابًا، أنا وكلّ أفكار الدنيا السّيئة التي تراودني، وأقارنُ نفسي من جديد بأناسٍ آخرين، يسرحونَ ويمرحون، يعيشونَ حياتهم، بالطول والعرض، ثمَّ ينالونَ منَ الله ما يريدون. أَصِلُ إلى آخر هذا الماراثون وأنا ألهَثْ، آخذُ نَفَسًا طويلا بحسرة، وأتذكر قوله تعالى: "إِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ".

فتتسلّل الطمأنينة إلى شقوقِ قلبي، وأقنعُ بقليلٍ منَ الرضا، وأمدُّ يدي لله، أطلبُ حلا مُستعجلا، نتيجةً سريعةً، أحلامًا غيرَ مُؤجلة التّحقيق، فأنا لا أريدُ العودةَ بمزيدٍ من الخيبات، وكثيرٍ من الشّكوى. هكذا نحنُ البشر، جُبِلنا على الضّعف والانكسارِ والنُّكران، على الرّغبةِ في الحصول على مقابلٍ معنويّ، ملموسٍ، ماديّ، أمامَ كلّ علاقةٍ نُقيمها، حتى لو كانت علاقةً روحيّة مع الله عزَّ وجلّ، على الكُفر بكلّ تلكَ اللّحظات التّعيسة التي نمرُّ بها، بكلّ الرّفاق الخائنين، بكلّ الدروب المُظلمة، بكلّ عَثَرات الشَّوق الغبيّة المُوجعة.

مِن الجميل أنْ يكونَ لكَ ربٌّ تعبده، تشعرُ بقربه، تحسُّ بأنَّ رحمتَه معكَ أينما حللْت، يمنحكَ الفُرَصَ لتعود، يغفرُ ويسامحُ زلاّتك، وأنتَ الذي لا تغفرُ لأحدٍ أخطأَ في حقّك
مِن الجميل أنْ يكونَ لكَ ربٌّ تعبده، تشعرُ بقربه، تحسُّ بأنَّ رحمتَه معكَ أينما حللْت، يمنحكَ الفُرَصَ لتعود، يغفرُ ويسامحُ زلاّتك، وأنتَ الذي لا تغفرُ لأحدٍ أخطأَ في حقّك
نكفرُ بالثقة التي وضعناها في صديقٍ فَخانَها، بالأملِ في حبيب سرقَ أيامنا الجميلة ورحَل، نكفرُ بالوعودِ المزيّفة، بالعُمرِ الضائع في الانتظار، بالسرّ الذي بُحنا بهِ لبئرٍ بلا قرار، فإذا بالبئرِ والسّر، عَقَدا صفقةَ تآمرٍ علينا. فانكشف للجميع. نكفرُ بكلّ بشاعَةِ الدنيا، تتحطَّمُ آمالُنا أمامَنا، فنركضُ مُهرولينَ، نشكُو حظَّنا ونندبُ أيامنا، تُساومنا تلكَ اللّحظات بينَ الحزنِ والرضا، فنختارُ الحزنَ، ونضعُ الرّضا جانبًا، نظنُّ أنّنا بسَخَطِنا هذا، نُعاند ربًّا أقسمَ على عبادهِ أنّه:

"مَن ذكرني في نفسه، ذكرتُه في نفسي، ومَن ذكرني في ملأ، ذكرتُه في ملأ خيرٍ منه، ومن تقرَّب إليَّ شِبرا، تقرّبتُ منه ذراعًا، ومَن تقرّب منّي ذراعًا، تقربت منه باعا، ومَن أتاني يمشي أتيتُه هرولة".

كنتُ أستغربُ دائمًا من قصصِ الصّبورينَ على أذى الدنيا، ولا أجدُ تفسيرًا لصبرِ أبٍّ، يفقدُ ابنَه فيهرعُ لربّهِ يصلّي، ويحمدُ الله على أنّه اختاره ليكونَ جوارَه، قريبًا منه، يشفعُ له يومَ القيامة، وأتفاجأُ من آخرَ، يشكرُ الله أنْ وهبَهُ مرضًا يخفّفُ عنهُ ذنوبَه، كنتُ أظنُّهُ صبرًا، لا يُمنَح سوى للأنبياء، فلهم وحدَهُم مِن المعجزات ما لغيرهم. حتى قرأتُ الكثيرَ مِن حكاياتِ الصّبر العجيبة، فوقفتُ عاجزةً أمامها، مشدوهة، أخاطبُ نفسي: أيّ قوةٍ تلك، وأيّ عظمة وأيّ رضا، نالَه هؤلاء حتّى وصلوا لهذه القوة، والدرجة العالية من الإيمان! أكانوا يستشعرونَ عظمةَ قولهِ تعالى: "وبَشِّر الصّابرين"! هذه الآية التي قالَ عنها الأستاذ في جامعة أوتاوا بكندا، خالد سليمان وهو يروي قصة إلحاده وعودته للدين: "حقا لو كنتُ أعلمُ مفعولَ هذه الآية لَمَا ألحدت". موضّحًا أنَّ مشكلةَ العدل، والمقارنة الخاطئة، هي التي كانت سببًا في دخولِهِ عالمَ الإلحاد.

مِن الجميل أنْ يكونَ لكَ ربٌّ تعبده، تشعرُ بقربه، تحسُّ بأنَّ رحمتَه معكَ أينما حللْت، يمنحكَ الفُرَصَ لتعود، يغفرُ ويسامحُ زلاّتك، وأنتَ الذي لا تغفرُ لأحدٍ أخطأَ في حقّك، حتى لو اعتذرَ منك مئات المرات، ربٌّ يخففُ عنك وأنت تلجأُ إليه، فتنسى كدرًا أضناك، ووجعًا آذاك.

ربّ لا يريدُ منكَ أن تقفَ على رؤوسِ أصابعكَ طوالَ اليوم، مُحاولا الوصولَ إلى حل، ولا أنْ تعبرَ ممرًّا مظلمًا بمفردك، يريدُك أن تتمسّك بحبلِه، تدعوهُ في الشّدة، دونَ أن تنساهُ في الرّخاء، تثقُ به بلا شرطٍ أو قيْد، تؤمنُ به، تحبّه حتى لو لمْ تكن تعلَمُ وتفهمُ كلّ الطرق إليه. يريدكَ أن تكون قريبًا منهُ وحسب. فالطريقُ إلى الله، لا يُحفَظ بل يُمشَى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.