شعار قسم مدونات

حين تصبح ثقافة المرأة تهمةً ونقيصة!

blogs امرأة تقرأ

استوقفني أول أمس مقال على مدونات الجزيرة عنوانه: "إذا أردت امرأة تُقبّل يديك فلا تتزوج مثقّفة"، وقد ظننتُ بداية أن العنوان ساخر، وأن مضمون النصّ سيأتي بفكرة مختلفة عما يوحي به العنوان، وهو أمر شائع في التقاليد الكتابية، ولكنّ توقّعي لم يصدق، لأن العنوان كان معبّرا عن المضمون، وهو مضمون ستخرج منه بفكرة واحدة هي أن المرأة المثقفة لا تصلح للزواج!

 

لا أودّ هنا مناقشة تلك النزعات الذكورية الطاغية في المجتمع العربي، وهو أمر أقرّ به الكاتب، وبين (من وجهة نظره) ذلك النمط النسائي المفضل لدى الرجل العربي، أي المرأة التي تلغي ذاتها أمام الرجل، وتمنحه إحساسا بالقداسة والسموّ، وتقبّل يديه صباح مساء، ولا تناقشه في رأي أو تردّ له طلبا.

 

ولا يعنيني كثيرا أن تكون أذواق معظم الرجال العرب على هذا النحو، فتلك نزعة أو ربما كانت طبيعة يصعب الفكاك منها، وقد يتطلب نقاشها، وبيان أوجه التطرف فيها، بل ومخالفة بعضها لأصل الحياة الزوجية وضروراتها كما قررها الله عز وجل جهدًا كبيرًا يتجاوز حدود هذه المقالة.

 

إذا نظرنا إلى عادة تقبيل الأيادي في مجتمعنا سنجدها محاطة بإكراهات العادات والتقاليد فقط، أي أنه ما من سند شرعي لها، فكيف صارت من متطلبات إسعاد الزوج وتبجيله؟
إذا نظرنا إلى عادة تقبيل الأيادي في مجتمعنا سنجدها محاطة بإكراهات العادات والتقاليد فقط، أي أنه ما من سند شرعي لها، فكيف صارت من متطلبات إسعاد الزوج وتبجيله؟
 

ما بدا لي مستنكَرًا في الموضوع كلّه هو ذمّ المرأة المثقفة، والإيحاء بأن النساء المثقفات لا يصلحن للزواج، وأن وجودهن في حياة الرجل لا يضمن بناء مملكة مستقرة، وغاب عن الكاتب أن طباع الإنسان وتركيبة أخلاقه هي التي تتحكم بعلاقته مع شريكه ومع جميع الناس، وليس مستوى ثقافته أو وعيه. فحتى لو أردنا مسايرة الكاتب في تصوراته عن الزواج المثالي، أليس هناك نساء جاهلات أو غير مثقفات لا يصلحن للحياة الزوجية؟ وهل عاين الكاتب حياة معظم النساء المثقفات قبل إصدار حكمه ذاك؟ وهل احتجاج إحداهن أو بعضهن أو حتى كثير منهن على مناشدة المرأة تقبيلَ يدَ زوجها، وعلى ابتهاج الرجل بهذا الصنيع يعني أنهن ينكرن حقوق أزواجهن؟

 

يقول المثل الشعبي: "بوس الأيادي ضحك على اللحى"، وإذا نظرنا إلى عادة تقبيل الأيادي في مجتمعنا سنجدها محاطة بإكراهات العادات والتقاليد فقط، أي أنه ما من سند شرعي لها، فكيف صارت من متطلبات إسعاد الزوج وتبجيله؟ وما موطن المتعة المعنوية في أن يبتغي الرجل الشعور بخضوع زوجته له عبر تقبيل يده؟ وماذا إن كانت مجبرة على ذلك فيما هي له أو لهذه العادة كارهة؟

أرجو ألا يُفهم من كلامي أنني ضد أن تقبل المرأة يد زوجها أو أن يقبل هو يدها أيضًا إذا جاء الفعل في سياق طبيعي، تفضي إليه المودة القصوى والمحبة المتبادلة، وخصوصًا إذا كانت المرأة ترى أن زوجها يستحق ذلك فعلًا، وأن له عليها من الفضائل ما ترى أن شكره المعنوي عليها يستقيم بهذا الفعل المقابل أو سواه. لكن المشكلة برأيي حين يظن بعض الشباب أن معيار الزواج الناجح هو بالدرجة الأولى توفر زوجة خانعة، لا تناقش ولا تبدي رأيًا وتقبّل يد زوجها صباح مساء، دون أن يكون مهمًا فحص مشاعرها الحقيقية تجاه زوجها، ومدى أهمية أن يكون فعلها تلقائيًا وبإرادتها واقتناعها عاطفيا.

 

ألا يوجد نمط من الزواج أرقى من كل نزعات السطوة هذه، قوامه محبة واحترام متبادلان، وتَشارُك في كل تفاصيل الحياة، وودّ طبيعي صادق غير متكلف؟ ثم أليست هناك أشكال للتودد بين الزوجين أجمل وأسمى من تلك التي تقترن ذهنيًا بانقياد الطرف الأضعف للأقوى؟

 

لعلّي أوافق الكاتب فقط في حديثه عن سرّ اشتهار مسلسل "باب الحارة"، وهو صورة المرأة فيه، لكنّ هذا العمل الذي جذب مزاج كثير من الرجال ساهم في إضافةِ جماليةٍ بائسة وخاوية على صورة المرأة التي تبالغ في التذلل والخنوع لزوجها، وعدم مناقشته مهما قال أو فعل، المرأة التي يستند معيار قبولها الوحيد على جمالها وخضوعها، وليس مهمًا كل ما سوى ذلك.

فيما يغيب عن الأذهان أن الزواج السعيد أو الناجح يستند على طرفين هما الرجل والمرأة وليس على واحد منهما
فيما يغيب عن الأذهان أن الزواج السعيد أو الناجح يستند على طرفين هما الرجل والمرأة وليس على واحد منهما
 

 

لكن التوازن في عرض الفكرة غاب عن ذلك المقال، كما يغيب عن كثير من شبيهاته، ومنها أيضًا تلك المعاكسة، أي التي تنتصر للمرأة على حساب الرجل، وتصوّر العلاقة بينهما ندية متوترة، ومادية جامدة.

 

أمّا تخيُّر نصوص من السنة تعزّز ما يخدم وجهة نظر واحدة (وبعضها أحاديث ضعيفة)، والتغافل عن تلك التي تبيّن جانبًا آخر فهذه مشكلة أخرى، وقضية الزواج تحديدًا وحقوق طرفيها في الإسلام لا يمكن استيعابها إلا إن عُرضت بشكل متكامل وشامل، تبيّن حقوق وواجبات الرجل والمرأة على حدّ سواء، وعلى قاعدة (ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف)، أما إظهار ما يخصّ الرجل باعتباره مقدّسًا والتهوين من شأن ما يخص المرأة، فهو مجاراة للهوى وانتصار لنزعات الذات ورغباتها.

 

ولعل في تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع زوجاته من لين وتسامح ورفق وتجاوز عن هفواتهن ما لا يطيق فعله معظم رجال هذا الزمان، رغم أنّ منهم مَن إن أراد إسكات زوجته تخيّر لها بعض ما يناسبه من نصوص وأعرض عن غيرها.

 

وبالعودة إلى موضوع الثقافة، فثمة مبالغات رأيناها مؤخرًا تتعلق بها، وخصوصًا محاولات تعزيز فكرة ازدراء المرأة المثقفة أو الواعية، مع تغييب متعمّد لفضائلها على الأسرة والبيت وتربية الأبناء، لدرجة أن الأمر بات يبعث على الاعتقاد بأن هذه الأمور لا وزن لها في معايير كثير من الرجال، أو من يدورون حول تلك الفكرة، أي فكرة أن الزواج المستقر السعيد لا تصلح معه زوجة مثقفة.

 

فيما يغيب عن الأذهان أن الزواج السعيد أو الناجح يستند على طرفين هما الرجل والمرأة وليس على واحد منهما، فهناك كثيرون، من الرجال والنساء، والمثقفين وغير المثقفين، من كانت طباعهم الذميمة وعشرتهم السيئة سببًا في هدم البيوت، واستحالة استمرار الزواج، بغضّ النظر عن مستواهم الفكري، وعن توفّر أو انعدام تلك المعايير الخيالية التي قد يفترضها الواحد في الآخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.