شعار قسم مدونات

الفكر وثنائية الوجود والمعنى

blogs - رجل وحده أمام البحر
كيف يفكِّر الإنسان؟ لهذا السؤال أكثر من معنى، فهو قد يعني:
1- ما هي الطريقة التي يشتغل بها عقل الإنسان لإنتاج معرفة ما، وهي طريقة تختلف من شخص لآخر، ومن تاريخ لآخر.
2- وقد يعني كيف يُمكن لعملية التفكير بحد ذاتها أن تحدُث، أي ما الذي يحدث في الواقع عندما نقول إن هناك إنسان يفكِّر.

عندما نقول كيف يفكِّر الإنسان بالمعنى الأول فنحن قد نعني المسلمات والافتراضات وأساليب الاستدلال والبرهنة التي يستخدمها من أجل الوصول إلى معرفة. وعندما نقول كيف يفكِّر الإنسان بالمعنى الثاني فنحن نقصد ما الذي يحدث في (مخ الإنسان أو في أي مكان/لا-مكان آخر) عندما تكون هناك عملية تفكير بالمعنى الأول.

بعبارة أُخرى، السؤال عن التفكير بالمعنى الثاني هو سؤال عن كيفية حدوث التفكير بالمعنى الأول.
عندما قلت في المقال السابق والذي قبله إن أسئلة الإنسان بشأن الكون والوجود بحاجة أساس أنطولوجي يمنحها المعنى خارج عقل الإنسان، كنت أفترض، ولكن بشكل غير واضح، التفكير بالمعنى الثاني، أي الطريقة التي يشتغل بها العقل ليس على المستوى المعرفي أي مستوى المسلمات والافتراضات والاستدلال، وإنما على المستوى الأعمق، المستوى الأنطولوجي، أي مستوى وجود المنصة التي تتم فيها عملية التفكير، أيّا كانت طبيعة هذه المنصة.

يمكننا استعارة لغة الكمبيوتر من أجل المزيد من التوضيح. فمن المعروف أن الكمبيوتر يتكون من العتاد الصلب "Hardware" والذي يتمثل في وسائط الإدخال/الاخراج والتخزين ووحدات المعالجة، وهو الشق الفيزيائي من الكمبيوتر، وهناك شق منطقي "Software" يتمثل في البرامج والتطبيقات.

ديكارت يعتبر أن للأفكار وجود غير وجودها الذي تتلقاه وتستفيده من التفكير بوصفها نحوا من أنحاءه أو شكلا من أشكاله على حسب تعبيره
ديكارت يعتبر أن للأفكار وجود غير وجودها الذي تتلقاه وتستفيده من التفكير بوصفها نحوا من أنحاءه أو شكلا من أشكاله على حسب تعبيره
 

عندما نتكلم عن الطريقة التي يشتغل بها برنامج كمبيوتر محدد، على سبيل المثال برنامج يقوم بعملية منطقية بسيطة، مقارنة عددين لمعرفة العلاقة بينهما، هناك مستوى منطقي هو الطريقة أو الخطوات المنطقية التي تتم بها هذه العلمية، وهذا يقابل عملية التفكير بالمعنى الأول عند الإنسان، ولكن عملية المقارنة هذه يتم تنفيذها فيزيائيا بواسطة الشق الفيزيائي/الصلب من الكمبيوتر أي ال"Hardware" وهذا التنفيذ يقابل التفكير بالمعنى الثاني.

لقد قمنا بتشبيه التفكير بالمعنى الأول بالخوارزمية أو البرنامج الذي يتم تشغيله بواسطة العقل الذي قمنا بتشبيهه بالعتاد الصلب. ويجب التنبيه أن كلمة "العقل" هنا لا تعني شيئا محددا له وجود محسوس، وإنما فقط كمجاز للمنصة التي يتم فيها التفكير. كما يجب التنبيه أيضا إلى أن تصميم الكمبيوتر في النهاية يقع داخل مجال التفكير بالمعنى الأول، فهو لا يصلح لتفسير طريقة اشتغال العقل بالمعنى الثاني وهو فقط تشبيه الغرض منه توضيح الفكرة، وليس كيف يشتغل التفكير.

فهناك فارق أساسي بين الكمبيوتر والإنسان، وهو أن الإنسان يشتغل من تلقاء ذاته، بينما الكمبيوتر هو في النهاية صورة للفكر (بالمعنى الأول ) في المادة، أو تجسيد محسوس للمنطق، وهو في النهاية ابن للتفكير بالمعنى الأول.

في المقال السابق تكلمت عن العقل كخاصية للوجود، حيث يمكن النظر الى الطريقة التي يفكِّر بها الإنسان بالمعنى الأول، كانعكاس لطريقة عمل الطبيعة الذي يمثل الإنسان جزءا منها، حيث نفكِّر بالطريقة التي يمليها علينا ضغط الانتخاب الطبيعي. هذا الكلام قد يكون مفهوما فيما يتعلق بالتفكير المتعلق بالسؤال "كيف نعيش". ولكن هناك أسئلة أُخرى كثيرة تتعلق بمعرفة حقيقة ومعنى وجودنا، أي تتعلق بشيء أكثر من مجرد كيف نعيش.

نحن بصدد ثنائية متعلقة بالفكرة، هي ثنائية الوجود والمعنى. فأنا أفترض أن للفكرة وجود بمعزل عن المعنى الذي تحمله، وأن للتفكير، كعميلة، وجود بمعزل عن الوعي به

وبالنسبة لهذه الأسئلة الأخيرة، أسئلة الحقيقة والمعنى، فإن التفكير بالمعنى الثاني، أي الطريقة التي يشتغل بها عقلنا على المستوى الأنطولوجي، هو قضية في منتهى الأهمية. لماذا ؟ لأننا بطريقة ما، نشعر بأن القيمة النهائية للحقيقية والمعنى يجب أن تكون مستقلة عن جميع أشكال الإكراهات، وحرة من كل أشكال التحديد. بماذا يذكرنا ذلك ؟ انه يذكرنا بفكرة الأُلوهة في شكلها الأكثر نقاءً وإطلاقا، كوجود غير قابل للتحديد.

لكن، ويا للمفارقة! إننا ما نزال نستخدم التفكير بالمعنى الأول حتى ونحن نفكِّر في الحرية والإطلاق والأُلوهة، أي أن أقصى ما نصبو اليه هو موجود كمعنى في فكرنا الذي نتساءل عن جذوره. فالعقل يخلق معايير للحقيقة والمعنى والحرية، وبواسطة هذه المعايير يحاكم نفسه بل ويحاكم تلك المعايير نفسها ! فما معنى أن نقول مفهومنا للحقيقة غير حقيقي، أو لا معنى لفكرتنا حول المعنى لأننا لا نعرف كيف يشتغل عقلنا على المستوى الأدنى، أي مستوى الـ"Hardware" بلغة الكمبيوتر؟

إن هذا الأمر أشبه بأن يتساءل برنامج ذكاء اصطناعي عن الطريقة التي يشتغل بها ليس الكمبيوتر وإنما عقل الإنسان نفسه. ولا أقصد هنا الاشارة الى فكرة خالق واستحالة الوصول الى "الطريقة التي يفكِّر بها"، وإن كان ذلك صحيحا بافتراض وجود خالق قام بتصميم العقل الانساني بحيث يشتغل بطريقة محددة، وإنما أردت التأكيد على المشكلة الأساسية التي نحن بصددها وهي كيف يمكن أن يفهم العقل الطريقة التي يشتغل بها هو نفسه بالمعنى الثاني.

ها هي مشكلتنا الأساسية. إننا نفكِّر، ولهذا التفكير معنى، فعندما قال ديكارت "أنا أفكِّر إذن أنا موجود" فهو هنا يتكلم عن معنى التفكير ومعنى الوجود. ولكن ما الذي كان يحدث عندما كان ديكارت يفكِّر ويستنتج أنه موجود.

– كان يفكِّر ! (تلك هي الإجابة التي تقفز للوهلة الأولى كشيء بديهي لا يحتاج لتفسير)
بالنسبة لديكارت لم تكن هناك مشكلة مثل مشكلتنا المطروحة هنا، لأنه يعتبر أن هناك جوهرا قائما بذاته هو النفس طبيعته هي التفكير، أي أن التفكير بالمعنى الثاني هو شيء يحدث في النفس كخاصية ملازمة لها، تماما مثلما أن الامتداد هو خاصية ملازمة للمادة، وتلك هي الثنائية الديكارتية مادة/نفس.

نحن هنا بصدد ثنائية متعلقة بالفكرة نفسها، هي ثنائية الوجود والمعنى، هذه هي مشكلة المقال. فأنا أفترض أن للفكرة وجود بمعزل عن المعنى الذي تحمله، وأن للتفكير، كعميلة، وجود بمعزل عن الوعي به، فعندما أٌكون على وعي بأنني أفكِّر، أتساءل على سبيل المثال، فهذا ليس كل شيء، هناك تفكير وتساؤل كشيء موجود ومختلف عن الوعي به. بعبارة موجزة، التفكير هو شيء أكثر من الوعي بأننا نفكِّر.

ديكارت يعتبر أن للأفكار وجود غير وجودها الذي تتلقاه وتستفيده من التفكير بوصفها نحوا من أنحائه أو شكلا من أشكاله على حسب تعبيره. ولكن يظل هذا الافتراض شيئا لا علاقة له بالذي يحدث عندما يفكِّر الإنسان.

تنشأ مشكلة الوجود والمعنى بالنسبة للأفكار، لأن المعاني كما يدركها الإنسان إذا كانت ترجمة لرموز ذات طبيعية مغايرة للمعنى ،فإنها تفقد قيمتها المميزة
تنشأ مشكلة الوجود والمعنى بالنسبة للأفكار، لأن المعاني كما يدركها الإنسان إذا كانت ترجمة لرموز ذات طبيعية مغايرة للمعنى ،فإنها تفقد قيمتها المميزة

ليس لأنني أتبنى رؤية مادية اختزالية ترُد التفكير إلى عمليات تحدث في المخ، ولكن هذه الفكرة مفيدة لشرح الفرق بين "وجود الفكرة" و"معنى الفكرة"، حتى لو كانت الرؤية الاختزالية خاطئة. فإذا فكرنا في التفكير كشيء يحدث في المخ، فإن وجود الفكرة يكون شيئا مختلفا عن معنى الفكرة، تماما مثلما أن وجود الكلمات هنا في هذه الصفحة هو شيء ذو طبيعة مختلفة عن معناها في الذهن.

إذا افترضنا أن هناك كائن متعالي بوسعه رؤية تفكير الإنسان، فهل سيرى الأفكار والأسئلة الموجودة في الذهن الإنساني كأشياء ثنائية البُعد، أي كأشياء لها وجود ومعنى، أم هل سيرى هذا الكائن رموز خاصة بالأفكار ولكن بلا معنى، باعتبار أن المعنى هو شيء متعلق دائما بالذات؟

ولا يمكننا بالطبع أن نقول بأنه يمكن أن يرى رموز خاصة بالمعاني، لأن المعنى لا يُمكن أن يُوجد كرمز، كونه بالتعريف هو الغاية النهائية من أي ترميز، فالمعنى هو دائما شيء متجاوز للرمز، ولا يمكنه أن يكون رمزاً.

من هنا ولهذا السبب بالذات، تنشأ مشكلة الوجود والمعنى بالنسبة للأفكار، لأن المعاني كما يدركها الإنسان إذا كانت ترجمة لرموز ذات طبيعية مغايرة للمعنى، فإنها تفقد قيمتها المميزة وتصبح مثل الأشياء. تخيل أن يكون "السؤال الفلسفي" هو في النهاية عبارة عن تفاعلات نفسية ترتد إلى الأحاسيس والمشاعر وتفاعلات في المخ. هذه هي مشكلة المعنى.

– حسنا، ولكن فكرة "مشكلة المعنى" نفسها حينئذٍ تفقد معناها، ولا تعود مشكلة. مشكلة المعنى تصبح هي أيضا عبارة عن شيء موجود وحسب. فإذا تلاشى المعنى، فإن الا-معنى كذلك يتلاشى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.