شعار قسم مدونات

لا تعتذر عن مشاعرك

blogs موبيل

أوغلي أيتها المادية فينا، واستلي سكينا من سكاكين حضارتك، ولتعملي فينا تقطيعا، ولتحسبي علينا أنفاس الحياة، وذرفات الدموع، ورعشات الجسد. وليمد التواصل الاجتماعي بشبكاته ذراع المساندة لك، فتغدو قصصنا رهن كلمة مسبوقة بهاشتاغ، ويبقى الترند إنجازنا الاجتماعي والعاطفي والوظيفي والحياتي. 

 

ثم تعالي أيتها التكنولوجيا، وارفدينا بكل ما يخترق حصون الخصوصية، ولا تتركي لنا شيئا إلا معرضا للنشر، حتى صورنا القديمة التي لم يحالفها الحظ، فلنلتقط لها نسخا إلكترونية، ولنخرجها من ألبومها التقليدي أسفل الأدراج الخشبية، ولننشرها، ولنتغنى بزهوٍ بماضٍ وقور، على شاشات الحداثة الطائشة.

 

لم ننته بعد، فكل هذا لا يرضي غرورنا المتفاقم بإعجابات تنهال تباعا، ولا تعليقات تتوارد أشتاتا، ولا مشاركات من كل فجٍ عميق. بل تعالوا نخلق قصصا حدثت، أو لم تحدث، وتعالوا نحتفي بعيد ميلاد ممل، فإذا هو أبهج ما يكون على الشاشة. 

 

وتعالوا نفتح عين العدسة على لحظة ودية حالمة بين شريكي حياة، ثم نغلقها على يوم حياة كاملة من الشراكة المستحيلة. تعالوا نتغنى بأطفالنا من أجهزتنا الذكية، ونربيهم في الجهة الأخرى منها تربية غبية، تعالوا نضخم الحدث، وننفث فيه من روح البهرجة، أو نبخسه ونطفئه بإهمال الحديث. 

 

نحن اليوم لا نملك إلا المشاعر، وإن قننتها حزم الإنترنت وشككت فيها مظاهر الاحتفاء، تدفق هذه المشاعر ولا تعتذر عن مشاعرك
نحن اليوم لا نملك إلا المشاعر، وإن قننتها حزم الإنترنت وشككت فيها مظاهر الاحتفاء، تدفق هذه المشاعر ولا تعتذر عن مشاعرك
 

أو لم ننته بعد؟ كلا، تعالوا ننشب أظافرنا في جسد صديقنا الرقمي، وكلام عدونا الافتراضي، ونتناقل رسائل التخوين وصور المحادثات، وتعليقات اللمز ومنشورات الرسائل المبطنة. وننقض على ما تهالك منا، فنشبعه نهشا، ونمضغ ما تبقى من أرواحنا ونشبعها علكا. لعلنا نكون قد انتهينا. 

 

في غمرة هذا التدفق المحموم في التواصل البشري الافتراضي، والاحتفاء بالمشاعر على قارعة الفيسبوك وفي دهاليز تويتر، وبصراحة الانستغرام وبعفوية السناب، يتوجب على الإنسان فينا أن يقف، أن يتجرد من الاحتفاء، ويتوقف عند الأحداث، ويسأل نفسه سؤال الإنسان للإنسان، قبل الشاشة والأزرار واللمس، قبل الهاشتاغ والترند والإشعارات، قبل الحساب الشخصي والصفحة العامة، هل ما أضعه يستوجب الوضع، وهل ما أنشره وصل استحقاق النشر، وهل ما أحتفي به يستوجب الاحتفاء؟ وهل إذا ما نظرت يوما ما إلى خط الزمن في موقعي الاجتماعي، سأنظر إلى ما كنت عليه، بعين الوفاء أم بعين الندم التي تستوجب الحذف.

 

وعلى الطرف الآخر من الشاشة، هل هذا الإعجاب يعبر عني، أم أنه مجاملة طارئة ورد جميل بإعجاب مماثل، ومشاركة لا بد منها في موضوع يهز أركان شبكات التواصل ويحدث ضجة آنية لا أملك تجاهها الصمت فقط. أم شعور حقيقي تجاه ما وجدت، نعم الشعور، هذه هي الكلمة التي يجب ألا نفقدها أمام هذا الطوفان الهادر من النشر والتواصل، فإن حدث وشعرت بأن ما تفعله يستحق، و أن ما وصلت إليه مِن معرفة ينير، وأن ما يدعوك إلى أن تحدثنا بما تشعر به يعبر عنك، فتابع.

 

وإن شعرت أن ما أعجبك، إنما أعجبك لأنه يستحق الأعجاب، وأن ما ذرفت عليه دمعك يستحق الدموع، وأن ما كتبت فيه ولأجله يستحق المداد، وأن ما ارتعشت بسببه حقيقي التأثير، فتابع فنحن اليوم لا نملك إلا المشاعر، وإن قننتها حزم الإنترنت وشككت فيها مظاهر الاحتفاء، تدفق هذه المشاعر ولا تعتذر عن مشاعرك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.