شعار قسم مدونات

البيه.. بواب التاريخ!

blogs ريال مدريد

"التاريخ لا يذكر إلا النتائج"، عبارة قد تبدو مقبولة من أحد المشجعين، في كل الأحوال لا يوجد مشجع محايد أو حتى موضوعي. المشجع هنا يلوح بالمنديل، يبتلع لعابه بصعوبة، ويظهر وكأنه يتجرع السم في حالة تأخر فريقه بالنتيجة، ثم يمزق حنجرته فجأة بهتاف مدوٍ ويقفز مثل البرغوث معانقا المجهول الذي يصرخ معلنا هدفا. وعلى امتداد المباراة، فهو يشاطر آلاف الورعين من أمثاله القناعة بأنهم الأفضل، وبأن جميع الحكام مرتشون، وجميع الخصوم مخادعون، ومدربه فقط من يفهم بينما البقية أغبياء، هكذا يصفه الرائع إدواردو غاليانو، عبر ترجمة صالح علماني لكتاب "الشمس والظل" في كرة القدم.

 

تدل هذه المقدمة على اختلاف مفهوم المتعة من مشجع لآخر، فالبعض يرى في الدفاع متعة، بينما يؤكد غيرهم بأن الهجوم هو السبيل الوحيد نحو المجد. كل مشجع يقوم بصياغة وتفصيل هذا المصطلح وفق أهوائه الخاصة فقط، مع قبول جميع الآراء رغم تنافرها، من باب لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع، والفرق الكروية أيضا، لذلك لا أجد غرابة عندما أقرأ لأحدهم مقولة يشيد فيها بـ "الباص" الذي يركنه مورينيو، ليرد عليه صديقه بأن أهداف فرق غوارديولا هي النموذج الحقيقي لكرة القدم، وفي النهاية الجمهور دائما على حق، ومن المجحف وصفه بالتناقض لأنه يتبع قلبه، سواء عند الفوز أو الهزيمة.

 

من يقول إن التاريخ يذكر النتائج فقط فإنه لا ينقل الصورة كاملة، والدليل أن منتخب هولندا 74 الذي لم يفز بشيء ،من الممكن أن تقرأ عنه وتشاهد وتسمع أكثر بمراحل من فريق ألمانيا الفائز بالمونديال 
من يقول إن التاريخ يذكر النتائج فقط فإنه لا ينقل الصورة كاملة، والدليل أن منتخب هولندا 74 الذي لم يفز بشيء ،من الممكن أن تقرأ عنه وتشاهد وتسمع أكثر بمراحل من فريق ألمانيا الفائز بالمونديال 
 

ما ليس مقبولا أن تسمع هذه العبارة "تاريخ النتائج" من المحللين الذين يحصلون على الأموال جراء العمل في القنوات الرياضية، أو يكتبون تحليلاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لأن وظيفتهم في الأساس هي تحليل أحداث المباراة وشرح التفاصيل الدقيقة للمشجعين، فمهمة المحلل تكمن في متابعة سير العملية وليس معرفة نتيجة المباراة للتعليق، فمدة اللقاء 90 دقيقة كاملة، ونحن لا نشاهد لوحة الملعب عند البداية والنهاية، بل نرصد كل كبيرة وصغيرة رسمت الشكل الأخير لما يعرف بالنتيجة. النتيجة مجموعة من البيانات، أنت تناقش العملية وليس النتيجة النهائية، النتائج لا تُناقش.

 

من يقول إن التاريخ يذكر النتائج فقط فإنه لا ينقل الصورة كاملة، والدليل أن منتخب هولندا 74 الذي لم يفز بشيء من الممكن أن تقرأ عنه وتشاهد وتسمع أكثر بمراحل من فريق ألمانيا الفائز بالمونديال وقتها، كذلك يصف الكثيرون برازيل سانتانا 82 بأنه الأفضل في تاريخ السيلساو، وبالتأكيد وصل أريغو ساكي إلى قمة الكرة الإيطالية نتيجة الطريقة التي فاز بها لا الفوز نفسه.

 

 يلعب زيدان بأكبر عدد من لاعبيه حول دائرة المنتصف، مع ترك ثنائي هجومي فقط بالثلث الأخير، حتى يقوم بتدوير الكرات في الوسط، ويحرم منافسيه من ميزة قطع الكرات وتنفيذ المرتدة القاتلة
 يلعب زيدان بأكبر عدد من لاعبيه حول دائرة المنتصف، مع ترك ثنائي هجومي فقط بالثلث الأخير، حتى يقوم بتدوير الكرات في الوسط، ويحرم منافسيه من ميزة قطع الكرات وتنفيذ المرتدة القاتلة
 

ريال مدريد زيدان خير دليل على ذلك، فالفريق الملكي فاز بدوري الأبطال عام 2016 لكن دون إبهار، وعندما كرر الانتصار في 2017 حصل على صيت إعلامي وجماهيري أكبر. لا يتعلق الأمر فقط بأنه حافظ على لقبه للعام الثاني على التوالي، ولكن لأنه لعب بطريقة أفضل داخل الملعب أيضا، لذلك تم تقديره بشكل مضاعف وبدأ المتابعون ينظرون إلى الكرة التي يقدمها بعين الاهتمام. وبعد مرور أكثر من أربعة أشهر على نهائي كارديف ما زلت أشاهد مباريات بطل إسبانيا في الشامبيونزليغ، وأسجل ملاحظاتي حول طريقة تسجيلهم للأهداف، دون المخاطرة التي تعرض دفاعهم للقلق، فيما يعرف تكتيكيا بظاهرة "الاستحواذ الآمن".

 

تعرف طريقة الاستحواذ الآمن بهجوم الأرقام، أي يلعب زيدان بأكبر عدد من لاعبيه حول دائرة المنتصف، مع ترك ثنائي هجومي فقط بالثلث الأخير، حتى يقوم بتدوير الكرات في الوسط، ويحرم منافسيه من ميزة قطع الكرات وتنفيذ المرتدة القاتلة، لوجود عدد لا بأس به من الأسماء بعيدا عن خطوط الضغط، كذلك يسمح هذا الرهان في الخروج السهل بالكرة من الخلف، لوجود خيارات عديدة في منطقة الارتكاز أمام خط الدفاع. وللتغلب على قلة عدد المهاجمين يهدد الريال المرمى بثنائي هجومي سريع وقوي على الأرض وبالهواء، مع استخدام الظهيرين في التقدم بلعب التمريرات الطولية لهم، وتنفيذ العرضيات السريعة الخاطفة من مناطق بعيدة عن المرمى.

 

يتحدث الجميع عن الكرات العرضية، لكن قليلون من يحددون طريقة لعبها، فبعض الفرق تصعد إلى الراية الركنية، قبل لعب التمريرة على حافة منطقة الجزاء، بينما حصل بطل أوروبا على الأفضلية بلعبها من أماكن بعيدة

في الموسم الماضي بالليغا صنع الفريق 522 فرصة للتسجيل، وبلغت نسبة الصناعة من مناطق الأطراف قرابة 40%، مع لعب الكرات العرضية من أماكن بعيدة تماما عن منطقة الجزاء بنسبة وصلت إلى 10%، أي أن مارسيلو وكارفخال يفكران في لعب العرضية المباشرة أثناء تمركزهما بالقرب من خط المنتصف، لتفادي المرتدة القاتلة في حالة الفشل. ويعتبر هذا التكتيك ناجحا بشدة خلال الفترة الأخيرة، سواء مع ريال مدريد أو منتخب ألمانيا.

 

يتحدث الجميع عن الكرات العرضية، لكن قليلون من يحددون طريقة لعبها، فبعض الفرق تصعد إلى الراية الركنية، قبل لعب التمريرة على حافة منطقة الجزاء، بينما حصل بطل أوروبا على الأفضلية بلعبها من أماكن بعيدة، للاستفادة من قوة مهاجميه وسرعتهم في اللحاق باللعبة قبل مدافعي المنافس، لكن هناك أيضا مسار ثالث يعرف بلعب الكرة العرضية القصيرة على القائم الأول حتى يقابلها المهاجم مباشرة بقدمه، كل هذه الخيارات بلا استثناء لن يذكرها التاريخ، من وجهة نظر صديقنا الذي ينتظر نهاية المباراة فقط، حتى يرمي الاتهامات على الخاسر ويتفنن في كيل عبارات المديح للفائز.

 

عانى مانشستر سيتي كثيرا من الكرات العالية في الدوري الإنجليزي، يضم الفريق مهاجمين مميزين لكنهم لا يتمتعون بطول فارع أو بنية جسدية قوية، لذلك اختار غوارديولا اللعب بالعرضيات القصيرة، ليسجل 24 هدفا بنفس الطريقة في الموسم الماضي. وتدور فكرة المدرب حول الاستفادة من سرعة مهاجميه مقارنة بدفاع الغير، وتقليل سلبيات مهاجميه الخاصة بقلة استخدام الرأس، وصعوبة اقتناص الكرة الثانية في الهواء، ليحصل دي بروين أو ساني على الكرة بالقرب من الخط الجانبي، وبمجرد الاستلام تأتي التمريرة العرضية الأرضية القصيرة تجاه القائم الأول، ليقابلها أغويرو أو جيسوس في الشباك.

 

يلعب ميلان بخطة ثلاثي الخلف مؤخرا، ويضع مدربه كلا من بونوتشي، موساشيو، رومانيولي أمام مرمى دوناروما، مجموعة قوية جدا في ألعاب الهواء، لكن إيكاردي خطفهم جميعا وتفوق عليهم باستغلاله للعرضيات
يلعب ميلان بخطة ثلاثي الخلف مؤخرا، ويضع مدربه كلا من بونوتشي، موساشيو، رومانيولي أمام مرمى دوناروما، مجموعة قوية جدا في ألعاب الهواء، لكن إيكاردي خطفهم جميعا وتفوق عليهم باستغلاله للعرضيات
 

في ديربي ميلانو الأخير سجل إيكاردي ثلاثية تاريخية قاد به الأفاعي إلى الفوز على النادي اللومباردي، وسجل الأرجنتيني الهدف الأول بنفس الطريقة المعروفة باستغلال الكرات العرضية القصيرة، فكاندريفا استلم الكرة بالقرب من دائرة المنتصف على اليمين، ليلعب الكرة سريعا نحو منطقة الجزاء على بعد أمتار واضحة من الثلث الأخير، ليقابلها زميله بلمسة واحدة في الشباك مباشرة، رغم وجود دفاع ميلان المعروف بطول قامته وإجادته للكرات العالية.

 

يلعب ميلان بخطة ثلاثي الخلف مؤخرا، ويضع مدربه كلا من بونوتشي، موساشيو، رومانيولي أمام مرمى دوناروما، مجموعة قوية جدا في ألعاب الهواء، لكن إيكاردي خطفهم جميعا وتفوق عليهم باستغلاله للعرضيات، لأنها قصيرة وسريعة ومباغتة تجاه القائم القريب، لتتعقد مهمة أي مدافع في الحد من خطورتها، لأنه يقابل الكرة ووجهه للمرمى مع تمتعه بوقت أقل للتشتيت، لذلك كان لزاما دراسة تفوق إنتر ومن قبله سيتي ومدريد في استغلال العرضيات القصيرة، مع كامل احترامنا للتاريخ الذي سيذكر فقط هاتريك إيكاردي وينسى بقية الأمور الأخرى، ويأمرنا بالذهاب إلى السينما في حالة طلب المتعة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.