شعار قسم مدونات

رحلتي من العصيان إلى قائمة الإرهاب

blogs - مصطفى البدري

المشهد الأول

في المرحلة الثانوية اعتدت أنا وأحد أصدقائي أن نهرب من المدرسة وندخل السينما أو نقضي وقتنا في أحد أماكن اللهو التي تعمل نهارا، ورغم محبتنا لمشاهدة أفلام الأكشن الأجنبية (فان دام – سلفستر) إلا أننا قررنا فجأة أن نشاهد فيلم (في بيتنا إرهابي) الذي تم تغيير اسمه بعد ذلك ليصبح (الإرهابي)، هذا الفيلم ترك أثرا كبيرا في نفسي ونفس صاحبي، الذي ظل يقارن أمامي بين حال الأخ علي (عادل إمام) عندما كان يعمل في جماعة تغيير المنكر بالقوة، وبين حاله عندما انفتح داخل الأسرة التي أقام عندها بعد ذلك، وكان يؤكد لي أنّ كليهما شرّ، وأن الدين لا هذا ولا ذاك.

بعد ذلك بوقت قصير قرر صديقي أن يغير مسار حياته ويصبح متدينا، ولم يترك صحبتي؛ بل ظل ينصحني ويذكرني بلزوم إنقاذ نفسي من عواقب الفساد والعصيان، وكان مما نصحني به ألا أنام قبل أن أقول دعاء سيد الاستغفار "اللهم أنت ربي…. إلخ".

المشهد الثاني

كنا مجموعة من الشباب نسهر ونتسامر ونعاكس البنات على أحد نواصي منطقتنا، وكان هناك شيخ طيب بلحية بيضاء يمر علينا في الشارع أثناء سهرتنا ويعظنا، ويحدثنا عن الله وأهمية استغلال شبابنا في التعرف عليه والتقرب منه، وبينما كان أحدنا يسخر من الشيخ كان الأغلب يستمع له بإنصات واحترام مع إبداء بعض التأثر بكلماته، وذات مرة قلت لأصدقائي بعدما انصرف الشيخ: أتصدقوني لو قلت لكم أنني أتمنى أن أكون يوما ما مثل هذا الرجل؟ فاعتبروها مزحة رغم جديتي في الكلام!! وكان هناك شاب صغير قد افتتح مكتبة إسلامية في شارعنا، وكان هذا الشاب لا يكل ولا يمل من تذكيرنا بوجوب المحافظة على الصلاة عندما يمر علينا.

اقتربت من الإخوان أكثر (رغم اختلافي كثيرا معهم)، وابتعدت أكثر عن جماعة أنصار السنة وعن هذه المدرسة السلفية التي عَرفتُ فيما بعد أنها تحمل فكر محمد أمان الجامي وربيع بن هادي المدخلي
اقتربت من الإخوان أكثر (رغم اختلافي كثيرا معهم)، وابتعدت أكثر عن جماعة أنصار السنة وعن هذه المدرسة السلفية التي عَرفتُ فيما بعد أنها تحمل فكر محمد أمان الجامي وربيع بن هادي المدخلي
 

المشهد الثالث

ذات ليلة تذكرت نصيحة صاحبي، وبدأت أقول دعاء سيد الاستغفار، وحدث ما ذكرتُه تفصيلا في الأسبوع الماضي في مقال: زاد المهاجر إلى ربه وذهبت إلى الشاب صاحب المكتبة لأسترشد به في بداية طريقي، وقابلت الشيخ صاحب اللحية البيضاء في المسجد واحتضنني وبشرني بالخير وقرأ لي قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}، وشرح لي الآيتين باختصار، وكان من جماعة التبليغ والدعوة؛ فدعاني للخروج معهم ثلاثة أيام، ففرحت ورحّبتُ وخرجت معهم بالفعل، وكانت من أجمل الأيام التي قضيتها في حياتي كلها.

المشهد الرابع

بدأت أحضر الدروس والمحاضرات في مسجد أنصار السنة بالمحلة الكبرى، كما بدأت أتردد على المشايخ القريبين منا وخاصة الشيخ مصطفى العدوي والشيخ أبو إسحاق الحويني، واهتممت حينها بحفظ القرآن حتى وصلت إلى منتصفه في وقت قصير بحمد الله، والتحقت بمعهد إعداد الدعاة التابع لجماعة أنصار السنة، وقبل انتهاء السنة الرابعة والأخيرة كنت قد توليت إمامة مسجد جديد بناه أحد رجال الأعمال، وبعدما اجتزت امتحانات السنة الرابعة رفضَتْ إدارة أنصار السنة تسليمي شهادة التخرج بحجة أنني صاحب بدعة، وأنني أتكلم كثيرا في خطب الجمعة عن انحرافات الحكام، مما يحفز الناس للخروج عليهم!! فالتحقت بالمعهد التابع للجمعية الشرعية لكني لم أكمل بسبب كثرة المشاغل الدعوية.

التحقت بمعهد الدراسات القرآنية والقراءات التابع للأزهر وحصلت على إجازة في القرآن الكريم، ودرست عددا من القراءات، لكنهم فصلوني في نهاية العام الثالث لدواعي أمنية

المشهد الخامس

كانت الاعتقالات خلال هذه السنوات لأيام معدودة بسبب تصنيفي وقتها تبع السلفية العلمية، في حين تم اعتقال بعض أصدقائي في المسجد عند اكتشاف تنظيم جند الله الشهير عام 2002، لكن أغرب موقف لي مع الأمن حينها أنني حصلت على تصريح خَطابة من الأوقاف بعد اجتياز الامتحان الخاص بذلك، لكنهم قالوا لي: لابد من اعتماده من أمن الدولة أولا. فذهبت لمقر أمن الدولة لاعتماد التصريح.. فأصدر الضابط أمرا بوضعي في زنزانة الحبس حتى ينظروا في الموضوع!! وتركوني في الحبس لليوم التالي، حيث أخرجوني وقالوا لي: هيا توكل على الله وانصرف. فقلت لهم: وتصريح الخطابة؟ فضحكوا وقالوا: يبدو أنك لم تفهم الجواب بعد!! هتمشي ولّا نرجعك الزنزانة؟ وطبعا فهمت ومشيت.

المشهد السادس

كان المسجد الذي أمارس فيه الدعوة قريبا من بيت الحاج محفوظ حلمي والمهندس سعد الحسيني وهما من قيادات جماعة الإخوان المسلمين، وكان ذلك سببا للتعرف عن قرب على الجماعة التي طالما سمعت من مشايخ أنصار السنة أنها جماعة ضالة صاحبة بدع عظيمة، لكن من حسن الحظ أن أحد أهم هذه البدع هي الدعوة للخروج على الحكام -وهي نفس البدعة التي كانوا يتهمونني بها- ومن ثمّ حصل أن اقتربت من الإخوان أكثر (رغم اختلافي كثيرا معهم)، وابتعدت أكثر وأكثر عن جماعة أنصار السنة وعن هذه المدرسة السلفية التي عَرفتُ فيما بعد أنها تحمل فكر محمد أمان الجامي وربيع بن هادي المدخلي، وهما من أشد أعداء الحركة الإسلامية التغييرية، ومن أشهر وأبشع فتاوى هذه المدرسة: وجوب إبلاغ أجهزة الأمن عمّن يدعو للخروج على الحكام!! وحاليا يفتون بوجوب القتال بجوار حفتر ضد الجماعات الإسلامية في ليبيا. (تكلمت عنهم قبل ذلك تحت عنوان: المداخلة ومقتل الشيخ نادر العمراني، وسأكمل الكلام عنهم قريبا بإذن الله).

المشهد السابع

في عام 2007 انتقلت إلى مدينة العبور (إحدى المدن الجديدة القريبة من القاهرة)، وهناك مارست الدعوة في مسجد جديد حتى تم اعتقالي أواخر 2008، حيث جمعوني مع رفاق العمل الدعوي بالمحلة بتهمة عمل تنظيم جهادي، وبعد التحقيقات والتعذيب البشع وثبوت عدم وجود أي تنظيم.. وضعونا في سجن أبو زعبل شديد الحراسة بلا تهمة ولا قضية، وما بين 2007 و 2011 استكملتُ دراسة اللغة العربية من خلال دروس خاصة مع الدكتور محمد عبد المعطي، والتحقت بمعهد الدراسات القرآنية والقراءات التابع للأزهر وحصلت على إجازة في القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم، ودرست عددا من القراءات الأخرى، وقرأت برواية شُعبة عن عاصم وقالون عن نافع وخلف عن حمزة، لكنهم فصلوني في نهاية العام الثالث لدواعي أمنية، والتحقت بعد ذلك بكلية الدراسات الإسلامية والعربية (تعليم مفتوح).

 

في منتصف 2014 نِلتُ شرف الحكم بالإعدام مع مصادرة الأموال في قضية ليس لي علاقة بها أصلا!! وبعد ذلك حصلت على هدية إضافية من النظام المصري بالحكم بالسجن 15 سنة
في منتصف 2014 نِلتُ شرف الحكم بالإعدام مع مصادرة الأموال في قضية ليس لي علاقة بها أصلا!! وبعد ذلك حصلت على هدية إضافية من النظام المصري بالحكم بالسجن 15 سنة

المشهد الثامن

قامت ثورة يناير وشاركت فيها، وقد ذكرت ذلك تفصيلا في مقال بعنوان: في ذكرى ثورة يناير، تأسست الجبهة السلفية وكنت على علاقة وتواصل مستمر مع قيادتها، لكني لم أنضم فعليا للكيان إلا بعد انقلاب 2013، كما كنت مشاركا في حملة الأستاذ حازم أبو إسماعيل وفي كل الفعاليات الثورية المناهضة للمجلس العسكري، وبعد الانقلاب شاركت في اعتصام رابعة العدوية من أوله إلى آخره، ثم كانت مرحلة الملاحقات الأمنية حتى خرجت من مصر أواخر سبتمبر 2013 إلى تركيا، وفي منتصف 2014 نِلتُ شرف الحكم بالإعدام مع مصادرة الأموال في قضية ليس لي علاقة بها أصلا! وبعد ذلك حصلت على هدية إضافية من النظام المصري بالحكم بالسجن 15 سنة، وكانت الجائزة الكبرى أوائل 2017 بوضعي ضمن كوكبة من رموز الدعوة والسياسة وحتى الرياضة على قوائم الإرهاب!

الخاتمة (نسأل الله حسنها)

وإذا كان كل مشهد من هذه المشاهد الثمانية يحتاج لتفصيل خاص.. فإن المشهد الثامن على وجه التحديد يحتاج لحكاية أكثر دقة وتفصيلا، ولعل النفس تنهض لذلك قريبا بعون الله، لكن الذي دفعني لكتابة هذا المقال هو طلب من بعض الأصدقاء بعدما ذكرت طرفا من قصة توبتي في المقال السابق، فأحببت أن ألقي الضوء على أهم محطات حياتي، عسى أن يكون فيها ما يحفز على ترك طريق الشيطان والغواية والإقبال على ما يرضي الله سبحانه، وإذا كان ضمن هذه المحطات ما يمر به عامة البشر من أخطاء وزلات.. فإن أكثر وأسرع ما أستشعر أثره لتقويمي هو قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}. وهذه الآيات تستحق منا وقفات ووقفات.

والله من وراء القصد

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.