شعار قسم مدونات

في المغرب.. التاريخ أوفى حلفاء الشعوب

BLOGS - علم المغرب
هناك اليوم شبه إجماع، على وجود سيناريو قيد التنفيذ، هدفه الرئيسي والوحيد، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، من أجل ضبط الساحة السياسية والحزبية بالطريقة "القديمة". المحرك الأساسي لهذا السيناريو ليس ما يتم الترويج له من طرف بعض الأبواق المأجورة من إعلاميين وأشباه مثقفين، عن سعي لضمان التعددية، ومنع تغول طرف بعينه، أو عن وجود مشروع مجتمعي مكتمل، لكنه يحتاج إلى "نخبة منتقاة" لتنزيله على الأرض، ولو تطلب الأمر تعطيل المسار الديموقراطي المتذبذب، والإجهاز على إرادة "المواطنين/الرعايا".
المحرك الأساسي والفعلي -في نظري المتواضع- يتمثل في رغبة بالكاد يتم إخفاؤها، في الانتقام والثأر مما جرى ربيع سنة 2011، مع ما يرافق هذه الرغبة من شعور عميق باحتقار الشعب المغربي، الذي أسقط "مشروعا" ظن منتجوه ومسوقوه أنه بات في حكم القضاء الذي لا راد له. ترى ما الذي يكتشفه الباحث والمتابع اليوم، وبعد مرور سنوات على انهيار هذا المشروع؟ الاكتشاف الأول والأهم، أن أصحاب المشروع لم يستفيدوا من فشل الطبعة الأولى، فقرروا إصدار طبعة ثانية، غير مزيدة وغير منقحة… وماذا يجدي تغيير التلفيف الخارجي إذا كان المنتوج المغلف بنفس مستوى الرداءة؟

إن الأحزاب الحقيقية تتأسس على الأرض ووسط الناس، وليس في الغرف المكيفة، والمكاتب المعلقة في سماء الوهم. والاكتشاف الثاني من حيث الأهمية، يتمثل في انقطاع صلة بعض "صناع القرار"، أو على الأصح من يُقدمون على أنهم صناعه فعلا، بالتاريخ. وأقصد بالتاريخ هنا الجوانب المتعلقة منه ببناء الشخصية المغربية، وخاصة في القرنين الماضيين. فمن لم يقرأ تاريخ المغرب منذ معركة إيسلي إلى حين خروج الحماية الفرنسية منتصف الخمسينيات، لا يمكنه أن يصنع قرارات واقعية قابلة للتنفيذ.

حراك الريف كان أول اختبار عملي لما يمكن لأدوات التواصل الحديثة فعله في مواجهة الأدوات التقليدية التي ما زال البعض يراهن عليها لوأد التطلعات الشعبية
حراك الريف كان أول اختبار عملي لما يمكن لأدوات التواصل الحديثة فعله في مواجهة الأدوات التقليدية التي ما زال البعض يراهن عليها لوأد التطلعات الشعبية
 

وحراك الريف مجرد مؤشر ضمن مؤشرات أخرى، على أن "كاتالوج" الثورة المضادة في العالم العربي ليس صالحا لكل زمان ومكان.. وتصريحات نور الدين عيوش "رجل كل المهام"، حول الدور السلبي لبعض القابعين في محيط صناعة القرار فيما يخص حلحلة مشكلة الريف لا تحتاج إلى تعليق. ولعل الدرس الرئيسي هنا يتمثل في الخلاصة التالية: لا يمكن لأي نظام أن يحتل جميع الكراسي المحيطة بطاولة الحوار، ولا يمكنه أن يخاطب نفسه، ولا يمكنه أن ينتقي مخاطبيه وفق معاييره، ويلغي حركية المجتمع ويوقف حركة التاريخ. التاريخ الذي يعتبر أكبر وأوثق حليف للشعوب، لأن أعمار هذه الشعوب أطول دائما من أعمار الأنظمة، ولم يسجل التاريخ أن نظاما عاش فترة أطول من شعبه.

إن آثار ثورة المعلومات اليوم، أعظم بأضعاف مضاعفة -بمقاييس التاريخ طبعا- من كل المواعيد الهامة في تاريخ البشرية، من اكتشاف النار والكتابة، إلى الثورة الصناعية. ذلك أن أكبر حدث في القرن الحادي والعشرين، يتمثل في حصول جميع سكان العالم/القرية الكونية على "الاستقلال" في مجال تداول المعلومة، حتى أفقر البلدان أصبح في متناول سكانها الاستفادة من هذه الثورة في انتظار الطفرات الموالية وأولها تعميم الأنترنيت المجاني، لم يعد المواطن في أي شبر من العالم، مجرد مستهلك للمعلومة، بل أصبح منتجا لها.

وأرقام دركي الاتصالات في المغرب، غنية عن كل تعليق (معدل تجهيز الأسر بالهواتف المحمولة 99.6%، فيما يتوفر 94.4 % من الأفراد، المتراوحة أعمارهم بين 12 سنة و65، على هواتف من هذا النوع.. وأزيد من نصف الأفراد يمتلكون هواتف ذكية) إنها رسالة واضحة للذين يعتقدون أن "مخططاتهم" قادرة على تعطيل حركة التاريخ. ولعل حراك الريف كان أول اختبار عملي لما يمكن أن تفعله أدوات التواصل الحديثة، في مواجهة الأدوات التقليدية التي ما زال البعض يراهن عليها لوأد التطلعات الشعبية والمطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

المغرب كان دائما حالة استثنائية، والوصفات التي نجحت في مناطق أخرى مجاورة ومشابهة ليست قابلة للنجاح بالضرورة في أرض غير الأرض وتربة غير التربة ومع بشر غير البشر
المغرب كان دائما حالة استثنائية، والوصفات التي نجحت في مناطق أخرى مجاورة ومشابهة ليست قابلة للنجاح بالضرورة في أرض غير الأرض وتربة غير التربة ومع بشر غير البشر
 

لم يعد "النظام" وحده مصدر المعلومة، لم يعد تأميم "الأخبار" ممكنا، بل صارت أبواق الدعاية الكلاسيكية، تلهث -دون جدوى- في محاولة لمسايرة الوتيرة التي تتدفق بها المعلومات من مصادرها المختلفة. إن هذا الاستقلال، وهذه التعددية، هما إعلان عن ميلاد مغرب آخر، مختلف تماما عن مغرب سنة 1956، ومغرب أول دستور نص على التعددية وعلى نبذ فكرة الحزب الوحيد.. لكن من يقنع مهندسي المرحلة بهذه الحقائق الصادمة؟

لقد انتهت "غزوة" مؤتمر حزب الاستقلال مؤخرا، بإدخاله رسميا إلى النادي الجديد/القديم، ليكون مخلبا في اليد المعلومة في انتظار المواجهة القادمة مع الإرادة الشعبية، وحتى قبل أن يستقر الأمين العام الجديد على مقعده، بدأ الحديث عن استبدال قيادة الاتحاد الاشتراكي الحالية بأخرى جديدة، ولنفس الأسباب؛ أوراق احترقت ووجوه استهلكت، وستكون عبئا على من يراهن عليها لتنزيل السيناريوهات المرسومة،
لكن أين الشعب من كل هذا؟

يبدو أن كتاب السيناريو الجاري إعداده وتنفيذه، وضعوا الشعب خارج الحسابات، وهي حسابات ثبت في كثير من الحالات أنها غير دقيقة، بل مخالفة تماما للواقع، والجولات الانتخابية منذ 2011 كشفت ذلك بوضوح، وهذا أمر متوقع، خاصة عندما ينظر صانع القرار إلى الشعب باحتقار تام. لكن هناك سؤال آخر يفرض نفسه ولا يمكن تأجيله: ألا يتطلب إلغاء الأحزاب والنقابات عمليا، وتعطيل كل قنوات التعبير الطبيعي عن الإرادة الشعبية، أن هناك مقاربة قمعية جاهزة لمواجهة التحركات المتوقعة؟

الجواب عن هذا السؤال سيكشف حتما الخلاصة التي أشرت إليها أعلاه حول الجهل بالتاريخ، الذي يقول إن المغرب كان دائما حالة استثنائية، وأن الوصفات التي نجحت في مناطق أخرى -مجاورة ومشابهة- ليست قابلة للنجاح بالضرورة في أرض غير الأرض وتربة غير التربة ومع بشر غير البشر. والتاريخ بيننا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.