شعار قسم مدونات

عودة البارا.. هل دخلت مصر رسميًّا العشرية السوداء؟!

Blogs-ولاية سيناء
عبد الرزاق البارا، أو عماري صيفيّ، ضابط نخبة مظلي جزائريّ سابق، (البارا تعني: المظلّي بالفرنسية)، كان له وضع مميز جدا في الجيش الجزائريّ، ومقرّبًا من قائد الانقلاب وزير الدفاع خالد نزار. سجن ثلاثة أشهر بسبب مخالفته التعليمات العسكرية، ثم فُصل لاحقًا من الجيش الجزائريّ بسبب ميوله الإسلامية. حين اشتعلت الحرب الأهلية بالجزائر انضم للإسلاميين المقاتلين، وأخرج مواهبه العسكريّة في مواجهة الجيش. قاد العمليات العسكرية للجماعة الإسلامية المسلحة، وقتل ذات كمين 56 جنديًّا مظليًا من قوات النخبة الجزائرية! أو زملائه السابقين، إن صحّ التعبير!

            

هشام عشماوي، ضابط صاعقة مصريّ سابق، أحالته النيابة العسكرية للتحقيق بسبب مواقف تتعلق بالتزامه الدينيّ، ثم استبعد من الجيش للسبب ذاته، يقود مجموعةً مصريّة مسلحة تناهض السلطات العسكرية المصرية، وتُنسب إليه العديد من العمليات النوعية التي تستهدف الجيش والشرطة، آخرُها الحادثة المرعبة في الواحات الجمعة الماضية، حيث قُتل وأصيب نحو من ستين ضابطًا ومجنّدًا.

   

أمّا العشرية السوداء فهي سنوات الاقتتال الأهليّ الجزائريّ والذي امتدّ عشر سنوات من 1992 وحتى 2002 أو أوائل 2003، وقتل فيه عشرات آلاف الجزائريين، جلّهم من المدنيين، فقدت الحكومة سيطرتها نسبيًّا على الأرياف والضواحي، واقتصرت على مراكز المدن.

                

لا خلاف أنّ كثيرًا من الأنظمة هي أنظمة إرهاب فعليّ، تمارسُ الإرهاب على أصوله الكاملة، تقتل وتخطف وتصفّي معارضيها السياسيين، وتباهي بذلك كلّه
لا خلاف أنّ كثيرًا من الأنظمة هي أنظمة إرهاب فعليّ، تمارسُ الإرهاب على أصوله الكاملة، تقتل وتخطف وتصفّي معارضيها السياسيين، وتباهي بذلك كلّه
           
منذ رحل الاستعمار عن بلادنا (إن كان رحل فعلًا)، والبلادُ ترزح تحت حكم الأنظمة الفاشية العسكريّة، ومع نشوء هذه الأنظمة، نشأت تيارات تحرّرٍ مناهضة لهذه الأنظمة، وتحارب استبدادها وفسادها، تصدّر الإسلاميون كثيرًا هذا النضال، خاصة في العقود الأخيرة، واختلفت وسائلهم في ذلك، وبين وقتٍ وآخر ثار خلافٌ كبير حول العنف في مواجهة ظلم السلطة، بين مشرّعٍ له ومنظّر له وساكت عنه.

       

لا خلاف أنّ كثيرًا من هذه الأنظمة هي أنظمة إرهاب فعليّ، تمارسُ الإرهاب على أصوله الكاملة، تقتل وتخطف وتغتال وتصفّي معارضيها السياسيين، وتباهي بذلك كلّه، ولعلّه من المكابرة إنكارُ كون من يمارسُ القتل والخطف والاغتيال والمجازر في حقّ الأبرياء، هو مجرمٌ واجبُ المحاكمة، مستحقٌّ للقصاص العادل، وأنّه ليس من حقّ أحدٍ أن يُلزم ضحيّة ما، باستقبال القتل والاعتقال والتعذيب بنفسٍ رضيّة وقلب متسامح!

         

لكن السؤال: هل هذا الخيار كقرار جماعيّ خيارٌ مجدٍ، وهل هو -في ضوء التجارب والمعطيات- قرارٌ مشروع، أم أنه جريمة في حقّ النضال والبلد؟! وبالمقابل هل تُعدّ مواقف الإدانة المثيرة للسخرية والغثيان معًا، التي تصفُ القتلة والمعذّبين بشهداء الوطن، وتبالغ في التباكي العجيب على أكابر المجرمين، هل تُعدّ مواقف واعية ومدروسة، أم أنها نفاق وحُمق ومبالغة سمجة؟!

      

لقد تورّط جهاديّو الجزائر في مذابح لم تعرف الإنسانية لها مثيلًا، قتلوا نساءً وأطفالًا رضّع، واغتصبوا بناتِ شعبهم، وذبحوا المصلّين في المساجد في رمضان

أظنّ أنه من الناحية النظريّة، لا جريمة في مواجهة الظلم بكل وسيلة، وهو حقٌّ إنسانيّ وفطريّ، وأقربُ إلى الحق والعدل، بما فيه القتال، لذلك عُدّ جيفارا أيقونة ثورية عالمية، وهو ثائرٌ مسلّح! غير أنه في الوقت نفسه، من الناحية التطبيقية، قد يكون جريمةً فعليّة وكارثةً تهدد البلد والمجتمع، خاصة في المنطقة العربية والإسلامية، وأكثر خصوصية إذا ما كان متعلّقًا بتنظيمات إسلامية. فهل ينبغي للإسلاميين حملُ السلاح لمواجهة ظلم السلطات الإرهابية، أم عليهم الاقتصار على الوسائل السلمية؟

         

في تسعينيات القرن الماضي حصل انقلابان عسكريان على الإسلاميين. في تركيا انقلب الجيش على أربكان، فانتهج الإسلاميون السلمية والذكاء، وكثيرًا من البراغماتية؛ فعادوا إلى الحكم بعد سنين، وحاكموا المنقلبين! أي نعم، حالفهم الحظّ كثيرًا، ودفعوا ضريبةً كبيرة، لكن منجزهم كبيرٌ لا شك.

      

وفي الجزائر انقلب الجيش على جبهة الإنقاذ؛ فانتهج الإسلاميون العنف وحملوا السلاح. بداية حملوه دفاعًا عن أنفسهم، ثم مهاجمة للمعتدين عليهم، ثم بعدها استهدافًا لمؤيدي النظام، ثم استهدافًا للشعب بمجموعه (الشعب كان يُستهدف منهم ومن الجيش باسمهم أيضًا!)، ثم استهدافًا لبعضهم بعضًا، ثم قتلوا مشايخهم وعلماءهم وكبراءهم، ثم انتهى بهم المطاف معزولين، وبالحركات الإسلامية مرفوضة رفضًا شبه أبديّ في المجتمع الجزائري! لقد تورّط جهاديّو الجزائر في مذابح لم تعرف الإنسانية لها مثيلًا، قتلوا نساءً وأطفالًا رضّع، واغتصبوا بناتِ شعبهم واتخذوهنّ سبايا ثم قتلوهنّ، وذبحوا المصلّين في المساجد في رمضان في صلاة التراويح! نفذوا مئات المجازر، وقتلوا عشرات الآلاف وروّعوا ملايين، وكلّه بالفتاوى الشرعية الموثّقة، وبما لا يخالف شرع الله!

 

كثيرون قالوا: إن تلك المجازر "شغل مخابرات"، ولعلّ للكلام أصلًا، بل أعتقدُ اعتقادًا جازمًا أن أنظمة البغي والقهر مسئولة بالدرجة الأولى عن كلّ ما جرى، لكن اليقين الذي شهد به الجهاديون أنفسهم، وبعضهم حضر شيئًا من هذه المجازر، هو أنّ أكثرها وأفظعها كمًّا وكيفًا، كان بيد "المجاهدين"! وكان المستهدفون -يا للسخرية- هم مؤيديهم وأنصارَهم قبل مدّة وجيزة! (ولمن شاء أن يقرأ ويستمع مراجعات عطية الله الليبي وأبو مصعب السوري).

 

ثم في سوريا، تكررت التجربة، أخرج النظامُ الجهاديين من السجون، وأطلقهم ليشكلوا مجموعاتٍ مسلحة تقاتله بيد، وتدمّر حياة الناس وثورتهم بيد أخرى، كما تشهدُ مراجعات "أبو يزن الشامي"، كان النظام يعي ما يفعل، ويستفيد من التجارب السابقة، التهمت داعشُ والنصرة الثورة، وقضتا عليها من الداخل، وشكلتا إزعاجًا للعالم كله، حتى صار يرى في الأسد أخفّ الضررين وأهون الشرّين! ثمة مشكلة في حمل السلاح في معارك الداخل، الطرفُ الأوسخ يربحُ غالبًا في الحروب الأهلية، وإذا كان أحد الطرفين إسلاميًّا، يكادُ يكون محتّم الانحراف والهزيمة. أثبتت التجربة ذلك في أكثر من بقعة، وللأمر -بعيدًا عن التجربة- أسبابه النظرية أيضًا.

 

لقد أثبت الإسلاميون وأيدولوجيتهم أداءً رفيعًا، في قتال العدوّ الأجنبيّ، ولا زالوا  يقودون ببسالة المعركة ضدّ آخر احتلال أجنبيّ مباشر في المنطقة، لكنهم للأسف، لم يكونوا كذلك إطلاقًا في الكفاح ضدّ الاستبداد

مسائل كثيرة تفتح أبواب الانحراف على الإسلامي المقاتل: لعل أهمها الولاء والبراء، هذه المسألة تكاد تكونُ قنبلةً موقوتةً في معتقد الإسلاميين، وهو ليس شديد الخطر في حالة النضال السلميّ، لكنه إذا حُمل السلاح يصبح حاكمًا في دماء وأرواح!

 

وأكبرُ بابٍ دلف منه الجهاديون المنحرفون إلى تكفير الناس واستباحة دمائهم، هو باب الولاء والبراء، وفهمهم المعتوه لقوله عز وجل: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم". وبعد ذلك مسألة المعاملة بالمثل! وإذا كانت قاعدة الولاء والبراء الكارثة الأكبر على صعيد الكمّ، فقد كانت هذه (المعاملة بالمثل) هي الأفظع من حيثُ الكيف! فبها استحلّوا قتل نساء "المحاربين" وأطفالهم! تخيلوا أن "المجاهدين" قبضوا على أطفال في عمر العام والعامين، وذبحوهم بسكين "أوبينال" الفرنسيّ الحادّ، أمام أمهاتهم ثم أخذوا هؤلاء الأمهات سبايا، فاغتصبوهنّ ثم ذبحوهنّ، وكل ذلك تحت شعار المعاملة بالمثل، وبفتاوى المنظّر الشهير "أبو قتادة".

 

ثم بعد ذلك مسألة التترس، وتأوّل حديث "يُبعثون على نياتهم"، وهذا أزهقوا به أرواحًا كثيرًا، وأرسلوها إلى السماء، والله عزّ وجلّ يقسم من يقتلونه بين جنة ونار، فيكونون بزعمهم نالوا من عدوّهم، وخدموا الباقين بإرسالهم إلى الجنّة! ومثل هذه القضايا والمسائل الموجودة في التأصيل العسكريّ للإسلاميين، مرعبٌ جدًّا إذا طبّق في الحروب الأهلية، إذ تخرج هذه الحروب أقبح ما في الإنسان وأشنعه.
     

ثمة مشكلات أخرى غير أيدولوجية تهدد العمل الإسلاميّ المسلّح:

منها أنّ الفوز والريادة في هذه التنظيمات يكون غالبًا للأكثر تشدّدًا والأقدر على المزايدة الدينية، في تجربتي الجزائر وسوريا، التهمت التنظيمات الحديثة الأكثر تطرّفًا، سابقتها الأقرب إلى الاعتدال، وقتل القادةُ الشباب الجُدد مشايخهم وكبراءهم وقادتهم السابقين، أو عزلوهم، وهكذا دواليك، داروينية خاصّة بالجهاديين، البقاءُ للأشدّ تطرّفًا وجنونًا!

      

ومنها أن تحصينها ضدّ الاختراق من قبل المخابرات المحلية والدولية يكادُ يكون شبه مستحيل، التدقيق في الأفراد الوافدين المطاردين، من قبل مجموعات مطاردةٍ بدورها، محدودة الإمكانيات، هو أمرٌ شديد الصعوبة، وإمكان حصول الاختراق ووصوله إلى أعلى سلم القيادة في هذه التنظيمات كبيرٌ جدًّا، ولعلّ في قصة صعود بائع الدجاج جمال زيتوني إلى عرش قيادة الجهاديين في الجزائر، ثم خلافة المختلّ عنتر زوابري له شاهدًا واضحًا على ذلك.

       

لقد تفاءل كثيرٌ من الجزائريين والسوريين بالتنظيمات الجهادية، وفرحوا بعملياتها النوعية التي استهدفت رموز الطغيان والظلم في البداية، لكن فرحتهم لم تطل، وسُرعان ما التفّت بنادقُ الجهاديين وسكاكينهم نحو هؤلاء المتفائلين، وكانوا هم الأكثر استهدافًا، والأشدّ تعرضًا للحقد والانتقام بحكم كونهم مؤيدين سابقين (مرتدين لاحقًا)، وكذلك بسبب عدم مبالاة السلطات وسعادتها بما يحصل لهم.

         

صار الناسُ يخافون من كل إسلاميّ، يقولون: بولحية هو بولحية! يعني: ذوو اللحى كلهم واحد، اهرب إذا رأيت أيًّا منهم! من يبتسم لك اليوم يذبحك غدًا!
صار الناسُ يخافون من كل إسلاميّ، يقولون: بولحية هو بولحية! يعني: ذوو اللحى كلهم واحد، اهرب إذا رأيت أيًّا منهم! من يبتسم لك اليوم يذبحك غدًا!
       

كثيرًا ما تخطر لي هذه الصورة وأنا أرى المتفائلين بمثل عملية "الواحات"، بينما أراها إيذانًا بدخول مصر مرحلةً جديدة على طريق التجربة الجزائرية، أي نعم: أفهمُ سبب ابتهاج كثيرين ممن عانوا ظلم هؤلاء، ولكن إذا امتدّ هذا إلى تأييد للمسار وموافقة عليه، فهو -برأيي- بعيدٌ عن الوعي والفهم، قريبٌ مما وقع من جمهور الإسلاميين الجزائريّ والسوريّ.

        

في ختام شهادته على تجربة الجزائر، يروي القيادي في القاعدة عطية الله الليبي، كيف أن الجزائريين كرهوا الإسلاميين جميعًا، ولم يروا في أيّ حامل سلاحٍ منهم إلا قنبلةً يمكن أن تنفجر فيهم في أي وقت، وذكر فزع امرأة قروية بسيطة، حين رأتهم يقتربون من ابنها ليكلموه فقط (ربما ليسألوه عن الطريق)، كيف صرخت بأعلى صوتها، وأخذت ابنها وفرّت لا تلوي على شيء، رغم أن الليبي وأصحابه كانوا مطلوبين للقتل أيضًا من قبل زملائهم السابقين في الجهاد! صار الناسُ يخافون من كل إسلاميّ، يقولون: بولحية هو بولحية! يعني: ذوو اللحى كلهم واحد، اهرب إذا رأيت أيًّا منهم! من يبتسم لك اليوم يذبحك غدًا! وبقدر ما كان التعميم ظالمًا وقاسيًا، إلا أنه منطقيّ، ويكادُ يكون احتياطًا واجبًا في حق الجهاديين المسلحين في البلاد الإسلامية، على اختلافهم.

       

لقد أثبت الإسلاميون وأيدولوجيتهم أداءً رفيعًا، وسطّروا تجارب فريدة ورائعة في قتال العدوّ الأجنبيّ، وقد كان حضورهم العظيم واضحًا في حروب الأمة ضدّ المستعمر، من عمر المختار إلى عز الدين القسام، ولا زال الإسلاميون اليوم يقودون ببسالة المعركة ضدّ آخر احتلال أجنبيّ مباشر في المنطقة، لكنهم للأسف، لم يكونوا كذلك إطلاقًا في الكفاح ضدّ الاستبداد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.